مات محمد عباس مدرب نادي كربلاء. الطبيب اعلن ذلك في الساعة الاولى من آخر ايام حزيران. ٤ كسور في الجمجمة جعلته يموت سريريا قبل هذا بأيام، ثم اصبح اسما في سجل الموتى. لا تختلف دماء محمد عباس عن دماء غيره من الناس، لكن الفرق هو ان ضحايا الارهاب الاعمى يرحلون دون ان يعرفوا قاتلهم، بينما اتيح لمحمد عباس ان ينظر في عيون قاتله. لقد سبق للمدرب العراقي القادم من اقامة هانئة في بلد اوربي، ان نظر في عيون عناصر الامن العراقيين مرات ومرات، في كل نقطة تفتيش، وأمام كل دائرة حكومية وحول دور العبادة المهمة. سبق له ان تألم مرات ومرات حين سمع اخبار موت العسكر. لكن محمد عباس لم يتخيل يوما ان فصيلا من العسكر نفسه سيقتله. ولماذا يقتله ويكسر جمجمته اربع مرات وهو مدرب رياضي لنادي كرة معروف؟ هذا ما يجعلنا امام شيء هو اكثر فداحة من الموت. الذي مات هو "الشرعية السياسية" للحكومة، وعلى من يسجل الاموات ان يدرج اسم الشرعية في وثائق خزن الجثث ودفن الجنائز.
الشخصية الرياضية هذه كانت تنظر في عيون العسكر وتتوقع ان واحدا من مسؤوليهم سيهرع ليحيي قدوم المدرب من اوربا والتحاقه بخدمة الوطن. لكن ترحيب السلطة بقدومه تحول الى حفلة بالعصي تكسر الجماجم على ارض الملعب.
في اللحظة التي طارت فيها روح محمد عباس الى النهاية، كان هناك اشخاص رسميون يساعدون رئيس الحكومة على تجهيز "اوراقه الضرورية" حيث طار نوري المالكي الى روسيا بحثا عن اتفاقات نفطية، وأسلحة، ومعلومات عن مصير بشار الاسد، وأشياء اخرى لا يعلمها سواه.
في الساعة الاولى من آخر ايام حزيران كان هناك اشخاص رسميون يذكرون المالكي بأن هذا اليوم ليس مجرد ذكرى لثورة العشرين. بل هو ايضا ذكرى تسلمنا "السيادة" وانسحاب الجيش الاميركي من المدن الى قواعد على تخوم الصحراء عام ٢٠٠٩. وكان المالكي سعيدا بأنه يذهب الى موسكو حاملا معه ذكرى ثورة وانسحاب اجنبي جزئي وخروجا من سابع بنود ميثاق الامم المتحدة. لكنه لا يحمل تفسيرا لذهاب محمد عباس الى العالم الآخر في التاريخ المتزامن هذا، حاملا معه ذكرى عن قوات سوات التي تكسر الجماجم في ملعب كربلاء، وسؤالا معلقا حول معنى الدولة والشرعية ومعنى ان يكون القانون مخولا بالقتل في ملعب رياضي.
مسجل الموتى وضع اسم محمد عباس في اوراقه، لكن مسجل موتى من نوع آخر عليه ان يضع اسم الشرعية والسلطة في اوراق الميتين ايضا. فعدم المبالاة ومشاغلة الجمهور بأوامر حجز هذا الشرطي او ذاك العنصر الامني، لا يحمل دلالة على "حياة" الحكومة ولا "حيائها"، والاخطر ان ما حصل يوحي بأن الحكومة بهذا القدر من نقص "الحياة والحياء" لا تعبأ بدمائنا ولا باستمرار موتنا، ولذلك لا تجد نفسها مطالبة بأي توضيح ازاء فضيحة مصرع محمد عباس، وتطير الى موسكو لبحث شؤون السلاح والنفط وقياس ممكنات المزيد من الموت في المنطقة.
حكومتنا تعتقد انها تحيا بالسلاح والنفط، وبشراء المزيد من المدرعات والمروحيات، ستكسب مزيدا من "الشرعية" لتعوض بها شرعيتها التي يجري اعلان وفاتها كل يوم في سيل من الاخطاء والخطايا.
كان في وسع حكومتنا ان تحاول ان تثبت لنا شرعيتها وتنتهز الرحيل المفجع لمحمد عباس لتعترف بأننا نواجه كارثة في ملفنا الحقوقي، وتعترف بأن افتقاد قواعد لعبتنا الامنية لمعايير بني البشر، قام بتحويل سياسة الامن الى مصنع للفشل ومصنع لدوافع المزيد من العنف وتفريخ الانتحاريين اليائسين. لكن حكومتنا لا تحتفظ بتقدير يذكر لهذا النوع من الشرعية، فهي مشغولة بأحلام بناء انماط اخرى من فرض الامر الواقع، بالمزيد من اموال النفط، والمزيد من الجيوش المتضخمة، وسط فشل امني مريع يشجع القاعدة وأخواتها على السخرية من مشهد موتنا المفجع.
بلادنا صامتة وهذا امر محبط، لكن على الحكومة ان لا تخطئ في فك شيفرة الصمت هذا. اخطاؤها ورفضها لاية مراجعة وكل هذا الزهو بالخطايا والاستهانة بالانسان، هو الذي شجع ظهور حقائق سياسية جديدة في البلاد، تثبت ان الصامتين ينخرطون من داخل الشرعية الدستورية، في صناعة تغيير يمكن ان يضع حدا لهذه "الشرعيات المقلوبة". محمد عباس والقضايا المماثلة، سيكونون جزءا معبرا في كل منعطفات التحول التي تغضب حكومة ميتة.
الحكومة ماتت يا محمد عباس
[post-views]
نشر في: 30 يونيو, 2013: 10:01 م
جميع التعليقات 1
نصير عزيز مهدي
اخي سرمد ..ارجوا ان تسجل عندك كلامي هذا. لو جاءت اخبار القيامة ..اليوم ؟سوف لن ولم يتغير شىءفي عقلبة وسبات اهل العراق المطبق ؟ ...لن يحدث التغيير ولن تتغير النفوس ...الحق امامهم وهم قرروا ان لا يبصروه..