تأسرنا لحظات وداعك محمد عباس وجموع المعزّين يمشون وراء نعشك المهيب بقلوب مكلومة من فرط قسوة الظالمين معك ولم يحسبوا لوقع جرمهم أن يتحول إلى غضب شعبي عارم في ملعب شهد موت الضمير وسفك دم بريء وحادثة بشعة لن تنساها الملاعب العراقية طوال جريان كرة الألم على أديمها المخضّب بالدموع.
محمد عباس جاء إلى كربلاء بتذكرة الوفاء للأهل والأرض ، راسماً لأحلامه مساحة كبيرة في فضاء المستقبل بعدما ترك خلف ظهره كل ملذات الدنيا ومغريات العمل الاحترافي في أوروبا وأجواء الأمان المجتمعي ساعياً مع ثلة من المدربين الشباب لانتشال الكرة المحلية من محنة الترهل في المستوى والنتائج إلى مصاف النموذجية في شؤون علم التدريب، وكان له ما أراد بتواصله مع رحلة قيادة فريق مدينته في منافسات النخبة بعقدٍ لا يقدّر ثمنه إلا عباس حيث مهره بدمه واستودع نسخته في أطهر خانة من تاريخ اللعبة، فهاتوا لنا جميع عقود العالم وقسّموا واضربوا ما شئتم من أرقام في فلك الأندية لن تجدوا قيمة أعلى من صفقة كربلاء!
إني لأعجب كيف يهدر الوقت تحت رهن التحقيق والمماطلة ومعاينة موقع حادث ليس صعباً معرفة المتورطين فيه (آمرهم وعناصره وزمن تواجدهم في الملعب والمجرم المنفذ الذي هشّم رأس عباس) أم أنقلب الأمر إلى كيفية تأمين شهادات زور لإبطال التهمة وعدّها أثناء الواجب لإنقاذ القتلة من حبل لا مفرّ منه ؟! سحقاً لمن يحاول أن يمرر فعلة الأشرار بالرهان على زيادة أوراق ملفّ الاعترافات متعكّزين على استقلالية القضاء ، ونطالب بالانتباه إلى ذلك بدءاً من أعلى مسؤول في الحكومة إلى أعضاء اللجان القانونية والمتابعة بعدما أصبحت قضية عباس تشغل الرأي العام وتؤرقه حتى يصدر العقاب الرادع أثناء النطق بالحكم في جلسة محاكمة أمام وسائل الإعلام والجمهور، بهدف الحد من ظاهرة اقتحام الدخلاء أرض الملعب والتطبيق الفوري للقوانين بحذافيرها التي أكّدها الاتحاد الدولي لكرة القدم ، فقد ولّى زمن العنجهية وطاعة أوامر (السلطجية) وهم يتبخترون بقيافتهم وأسلحتهم وهراواتهم يرمقون أهل الرياضة بنظرات مهينة، مَن خوّلهم اقتحام أسوار النادي ، هل هو ثكنة خاضعة للتفتيش المفاجئ، أم أصبح ملعب الكرة فرصة مستباحة لتمرين تعبوي بعد المباراة؟!
أسئلة كثيرة ننتظر الإجابة عنها من المكلفين بالتحقيق في قضية محمد عباس من قبل النائب محمد الدعمي ومن تعنيه حقوق الإنسان وصلته بالوطن وكذلك المعنيين بحفظ النظام سواء من الجيش أم الداخلية ،فكلاهما مطالبان بالتشديد على رجالهما أن للرياضة قدسيتها في القانون الدولي وأي خرق في لوائحها يسهم في تعريض البلد إلى التهديد والعقوبات والحرمان من المشاركات الدولية التي أضرّت كثيراً بمنتخباتنا وكأنها أدمنت الغياب القسري بفعل فاعل !
وبالتشدد نفسه نأمل أن نرى تنسيقاً فاعلاً بين اللجنة الأولمبية الوطنية والجهات المسؤولة عن حماية الملاعب لانتخاب أشخاص ثقاة في أداء دورهم الأمني لا يرتدون البدلة العسكرية مطلقاً ويكون واجبهم الرئيسي حماية اللاعبين والمدربين والإداريين والجمهور من أي ضرر ربما تلحقه نتيجة مباراة تثير جنون وحماقة المتعصّبين !
وأسوأ ما في حكاية عباس ذلك الموقف الهزيل الذي تبنّته غالبية الأندية بانتظار ما تسفر عنه فترة المراقبة الحرجة لصحته المتدهورة طوال الأسبوع الفائت ولم تسجل موقفاً واضحاً ينسجم مع بشاعة الاعتداء على الرياضة خوفاً من خسارة النقاط والأهداف ومراكز جديدة في لائحة الدوري والنأي عن لعب دور كبش الفداء ،مثل أندية السليمانية وبغداد والصناعة ونفط الجنوب والكهرباء وكركوك التي سيوثق لها التاريخ مبادرتها الشجاعة والطيبة ،فذكرها يفيض بالنبل الإنساني لعقود طويلة أبقى من جميع المكتسبات التي تبحث عنها بقية الأندية بما فيها الكأس الجوفاء!
وكم انتظرنا أن يتخذ اتحاد الكرة الموقف الشجاع ليعلن الحداد على اغتيال دوري النخبة هذا الموسم ويلغي المسابقة تضامناً "عملياً لا دعائياً" مع الأصوات المطالبة بردّ الاعتبار لكرامة أسرة اللعبة بعد تلقيها إهانة الضرب بالهراوة والقتل العَمد للاعب والمدرب على التوالي بدلاً من مفاجأة الوسطين الإعلامي والشعبي ببيان التهديد العلني لكل من ينصاع لمؤامرة الانسحاب برسم إسقاطه مثلما روّج لهذه البدعة حملة (الطبلة) المنتخون له في السرّاء والضرّاء!