العراقيون يجلدون ذواتهم اكثر مما ينبغي هذه الايام. كل القدرة على الحشد والاحتجاج في مصر تشيع الكآبة في ارواح العراقيين الذين يراقبون وضع القاهرة واحتجاجها المبهج. الجميع يسأل في العراق: لماذا لا "نثور"؟ وهو سؤال واجب، لكن علينا الحذر من الاجابة عليه بفحوى اننا ميتون.اول الامور التي علينا استذكارها هي ان لدى الشعوب طاقة روحية محددة وقابلة للانحسار. وأن تعويض ما نقص من تلك الطاقة يحتاج بعض الوقت. وقد تعرض العراقيون الى استنزاف رهيب لطاقتهم الروحية، ومع ذلك فإنهم يبلون حسنا احيانا، ويقومون بالمزيد من التضحية لو كانت هناك خارطة طريق واضحة.جزء اساسي من الشعب لا يزال يشعر بإعياء، ويشعر انه امضى زمانا طويلا في التضحية، وأن عليه ان يلتقط انفاسه. انها لعنة الحروب والهزائم المتلاحقة وسنوات بدأها حزب البعث بحفلات قمع رهيب منذ مطلع الستينات، ليختتم عهده بعصر من التجويع وخسارة الكبرياء الوطنية. الشعب لم يلتقط انفاسه ولم يأخذ اية اجازة من الخسارات العميقة طيلة العقود الاربعة الماضية. لقد كان تيهاً تاريخيا فقدنا خلاله جزءا مهما من قدرتنا على امتلاك حلم صحيح، لكنه ليس موتا بالتأكيد، وإنما شعور بالانهاك العميق يولد "شكوكا عميقة بالتاريخ".لقد اتيح للمصريين منذ نهاية حروبهم في ١٩٧٣ ان يلتقطوا نفسا طويلا. وقد كانوا محظوظين بشيء من الانفتاح والتواصل مع العالم. ولديهم اليوم هدف واضح يليق بكل الفرص التي ضاعت خلال قرن.اما الشعب في العراق فقد كان عام ١٩٧٣ يتهيأ لدخول اقسى حقبة خلال قرن، حيث اعدت آلهة الحرب مصانع الذبح المتواصل، فسلبتنا الحد الادنى من الشعور بالامان بوصفه استقرارا اساسيا لبناء العقل الحضاري. ولم نخرج من تلك الحقبة الا لندخل في مذبح مقدس آخر يندر ان جربه سوانا، مع ظلام الزرقاوي وأشباهه، وأنواع من الفشل السياسي.العراقيون لم يموتوا، وجلد الذات لن يحل المشكلة. والاعتراف بأننا نعاني نقصا "موضوعيا" في طاقتنا الروحية على مستوى النخبة وعامة الناس، ليس استسلاما لقدر، بل هو اقتناع ايجابي بأننا فقدنا الكثير من الثقة الضرورية بالتاريخ. وهذا بدوره ليس يأسا من المستقبل بقدر ما هو حاجة للتطبيع مع هذا التاريخ وإقامة علاقة جديدة بقواعد لعبته. ان لحظة العراقيين اليوم هي زمان فاصل بين حقبة كنا خلالها خارج الزمان، وحقبة اخرى نستعد ضمنها للانخراط في الزمان الطبيعي ثانية. وهذا ما يحصل وإن ببطء وتلكؤ احيانا.في تجربة سحب الثقة من الحكومة العام الماضي، كان الناس يسألون: وماذا بعد ازاحة المالكي؟ وكذلك في استعدادات التظاهرات المهمة في شباط ٢٠١١، كان الناس يسألون: وماذا بعد ان تحتجوا وتعلو اصواتكم، ومن سيسمع ويتأثر؟ وهذه اسئلة امة اهتزت ثقتها بقواعد الزمن ولعبته، وعجزت عن امتلاك خارطة طريق للمستقبل. وحين ندعو احيانا لحشد احتجاجي تنهال علينا الاسئلة: الى اين انتم ذاهبون؟ فنكون امام شكوك بلا نهاية.لكن الشعب رغم شكوكه هذه، حاول ان يختبر المستقبل مرات ومرات. ذهب الى صناديق الاقتراع وصوت ضد الدستور او معه، وتابع سجالات الساسة على الشاشات.. ولا يزال يسأل باهتمام عن كل الحركات فوق رقعة الشطرنج. وليس من السهل ان نقنعهم بكلماتنا المتفائلة، لكن عجزنا عن اقناعهم لا يعني انهم موتى. وقد امتنع معظمهم عن الاقتراع الاخير في اطار هذا الشك التاريخي نفسه. لكن في ايدي النخبة اليوم ملامح تغيير من داخل شرعية النظام، يمكن ان تستثمر على احسن وجه لمحاولة جديدة مع الشعب الذي يشعر بأن ما تبقى من طاقته لا ينبغي ان يهدر في "معركة عادية". ان الشعب يراقب، وينتظر ان يرى امامه مشروعا موثوقا، لكي تتولد لديه قناعة بأن التضحية مشروعة ومعقولة، وهذه هي واحدة من مهمات النخب ومراكز القوى حتى اقتراع ٢٠١٤.يحسن بنا اليوم أن نأمل ان ما يحصل حولنا في مصر وغيرها، سيشجعنا على فهم افضل لقواعد التحول. وأن نحاول تكوين تصورات اعمق عما يجري في حراكنا السياسي من تحولات، وأن نجد الجرأة لدعم المسارات التي يمكن ان تتطور وتؤدي لتصحيح ضروري.الاولوية هي لبناء "ايمان النخبة" بإمكانية التغيير، ونجاحها في ان تتحول الى عنصر مفيد داخل محاولات كثيرة تبعث الامل رغم إحاطتها بشكوك عميقة. وهذا ما سيشجع شعبا فقد طاقته الروحية، الى اعادة الثقة بالتاريخ. الشعب لم يمت، لكن جزءا من ثقته قد مات. وعلينا المراهنة على إحيائها.
العراقيون لم يموتوا
[post-views]
نشر في: 2 يوليو, 2013: 10:01 م
جميع التعليقات 4
زاهر
مع الاسف اصبحت ممن يفلسفون الخراب
عادل مشكور
سيد سرمد كيف لك ان تقارن بين مصر والعراق وقد شطحت بعيدا عن ادنى بديهيات السياسة التي لا تسوغ المقارنات او القياس بين مدينة واخرى فكيف بمصر وتاريخها ونيسجها الاجتماعي وبين العراق وفسيفساءه ... خانتك ذاكرتكم ونسيتم ايام قم المقدسة والحوزة والانتقال الى بغدا
نصير عزيز مهدي
..الاخ العزيز سرمد ..عمر التنضير والكلام النظري يحل معضلات الواقع الخيالي الذي نعيش .اي نخب واي خارطة طريق..ارجوا ان تعذرني ..لاني كنت سابقا احب العراق وقدمت مثل كل ابناء جيلي الستيني الكثير .اقول هذا ليس منة ..؟لكن اقول اين ثمار ثمار ثمار الوطن ؟والجواب
الناصر دريد
نعم ياصاحبي انا متفق معك تماما ........ والان اخبرني مالحل بعد ان شخصّت الامر بشكل صائب ؟