في لحظة يحدث شيءٌ ليس في الحسبان. شيءٌ يتصل بالبصيرة النافذة للإنسان. يرى ما لم يعتدْ رؤيتَه، وبصورة خاطفة. حساسيةُ المبدع الخيالي هدفٌ يسير لهذه اللحظة، وأرضٌ خصبة لها. لأن بصيرتَه جهازٌ داخلي بالغ النضج، بالغ الاستعداد للفعل. وبالرغم من أن هذه اللحظة، أو هذا الشيء الذي يحدث فيها، يشبهان إشراقاً مضاءً، إلا أن البريق المشرق ليس إلا نافذة تُفتح على ما يليها. وما يليها شيءٌ ليس في الحسبان تماماً:
وفي لحظةٍ يحدثُ الشيءُ. يحدثُ صدفة:
كأن تتحاشى خلافاً مع ابنكَ أو زوجتك،
أو مع رأي طرأْ
في الكتابِ الذي كنتَ تقرأُه أملاً بالتوافق.
فتأخذُ ركناً بحجة أن تتأملَ،
أو حاجةٍ أن تُعيدَ انسجامَ المغنّين والعازفينْ
بداخل أوركسترا كيانك ..
الذي يفعله المبدعُ الخيالي، بالغ الحساسية، ليس إلا ردةَ فعل غيرَ عاقلة. ربما تكون وليدةَ الدهشة، أو التوقع أو الذعر. لأن الكتاب الذي بين يديه لم يعد كتاباً. والمشهدَ أمامه، وما ينطوي عليه من ألوان وحركة وأصوات، يتعرّى من المعنى كما تتعرى شجرةٌ من أوراقها في الخريف. إنه يرى الحياةَ المحيطةَ مثل نشارة الخشب على راحة الكف، هشةً دون صلابة، وخاليةً من المذاق تماماً. فيسارع إلى النفس، يعيدُ توازنَها وانسجامَ خيوطها اللحنية، ولكن دون طائل. فقد تفككت عُرى المنطق في كيانه الروحي والعقلي، وكأنه يرى الحياةَ على حقيقتها لأول مرة في هيئة دوامةٍ خرساء، ويرى نفسه أكثرَ خرَساً، بالغَ الضعف، بالغَ الصغار. حتى لا يجرؤ على التساؤل.
وإذْ بكَ، لا عنْ إرادة،
تقاومُ لحناً نشازاً بدأْ
على آلةٍ لمْ تكن في الحسابْ.
تقاومُه أوّلَ الأمرِ عن رغبةٍ في العتابْ،
ولكنه يتفشّى بلون الوشاية بين صفوف المغنينَ والعازفينْ...!
كان صخبُ المبدع الخيالي داخلياً، يُلهيه عن صخب الحياة المحيطة. ولكنه الآن لم يعهَدْ صمتاً عاصفاً كهذا الصمت، ولا دوامةً خرساءَ كهذه الدوامة، ولا وحدةً في التعارض بين نقيضين، كهذه الوحدة. وإذْ يحدّقُ في نشارة الخشب على راحتيه، يرى أنها كلمات، كلمات... محض كلمات مثل قشور القواقع الميتة، المنتشرة دون عد على ساحل الرمل. حينها، وبدافع الباحث عن السلوان يستعيد، بصورة خاطفة أيضاً، قافلةَ المهجّرين من مبدعي الخيال قبله ومعه، فيراهم ضُمراً، شاحبي الوجوه، معقودي اللسان بفعل بصيرة نافذة. تفرّقهم عن بعض عزلة داخلية دامية اللون. وتجمعهم إلى بعض وحدة هدف لا يثق أحدٌ منهم بوجوده. فيطيب له أن يستسلم لتيارِ مائهم بالغِ الصفاء، بالغِ الدفء. فهل هو أكثرُ منهم نفاذَ بصيرة ، وهل ما يحصده من عقاب نفاذِ البصيرة هذا سيكون أشدَّ وقعاً عليه؟ سيقطع المسافةَ التي قطعوها بوقعِ خطاهم ذاتِها. فالكتاب الذي بين يديه لم يعد كتاباً. والمشهدُ أمامه، وما ينطوي عليه من ألوان وحركة وأصوات، يتعرّى من المعنى كما تتعرى شجرةٌ من أوراقها في خريف مفاجئ.
وإذْ بك تدخلُ، لا عنْ يقينْ،
خيوطَ الشركْ،
وتهلَكُ فيمنْ هلكْ!
نفاذ البصيرة، قصيدة وهامش
[post-views]
نشر في: 7 يوليو, 2013: 10:01 م