يستمر النقاش حول تجربة انتفاضة الثلاثين من حزيران في مصر "أم الدنيا" العظيمة، ومقاربتها بأحوالنا في العراق. ويشتط السجال في كثير من اندفاعاته ليتحول إلى نكد وتقريعٍ سلبي للذات، وبذلك يفقد من حيث الجوهر قيمته وجدواه. فليس منطقياً إسقاط الحالة المصرية على الوضع في العراق، لا من حيث تاريخه وتضاريسه السياسية، ولا في تناقضات مجتمعه، أو عمق جذور نخبته الثقافية ومدى ارتباطها بالصراع الطبقي، ودورها التنويري في مختلف مراحل التحول. وقد يكون لهذا الدور طابعه السلبي حينما يجري توصيف الحياة السياسية في مصر، باعتبارها كانت "نخبوية" بامتياز، حتى حينما يرتبط الأمر بحال الحركة العمالية والاشتراكية، إذ يُعزى تخلفها عن الحركة الجماهيرية وعجزها عن تحقيق أهدافها، رغم نضوج الظروف الموضوعية، إلى هيمنة النخبة الثقافية عليها. والنخبة في مصر لعبت دوراً فكرياً وتنويرياً مبهراً يكاد يتجاوز الساحة المصرية ليغطي المشهد السياسي والفكري وينير الحركات الثورية والإصلاحية في أغلبية البلدان العربية، ويتحول إلى مصدر ورافد يُغني حركاتها وأحزابها ويثري تجربتها.
ويختلف المشهد العراقي في مراحله التأسيسية، ليشكل النقيض تماماً. فالحركة الجماهيرية ومنابعها، كانت مصدر إلهام واستنهاضٍ للحركة الثقافية والفكرية، ومنها وبها ارتقت وتنامت وازدهرت الحياة الثقافية، وبهما تكاملت لوحة المشهد السياسي، لتخلق الحالات الثورية، والمظاهر الحداثوية، مع مارافقها من تراجع وانتكاسٍ وتشويه.
ومن دون معرفة هذا التمايز بين الحالتين، المصرية والعراقية، تفقد أي مقاربة قيمتها ومغزاها. ويتحول المشهد العظيم لانتفاضة الشعب المصري، إلى مناسبة للمناحة والندم، وسبب اضافي لاستمراء الخيبة والاستسلام!
وستتكامل الطبيعة المتناقضة للحالتين، اذا ما أخذنا بالحسبان تضافر عاملين متناقضين في الحالة العراقية، وهما الثروة والعنف الفاشي، المتمثلان في الموارد المالية الضخمة من ريوع النفط، ودورها في تخدير أوساط نافذة في المجتمع، ورشوة شرائح منها، وممارسة اشد أشكال العمل الوحشي ضد الحركة الوطنية، والعمل الممنهج لتصفيتها جسدياً وسياسياً، والأساليب التي يندر استخدامها في غير الأنظمة الفاشية ضد المثقفين ورواد النهضة الفكرية والحداثة الثقافية الإبداعية.
لقد أبهر الشعب العراقي بجماهيره الواسعة ونخبه ومثقفيه، العالم، بما قدمه من مشاهد الكفاح والنهوض الجسور والاستعداد للتضحية والفداء، في مراحل تاريخية سبقت اغتصاب السلطة من قبل البعث في ١٩٦٣ و١٩٦٨، وهما الحقبتان الأكثر ظلامية في تاريخ العراق، منذ هولاكو. وإذا ما بدا انه مستكين، لا حول له على مقاومة الخراب الذي يحيط به، والتعديات التي يتعرض لها، والانتهاك لحرياته وكرامته والتجاوز على قيمه، فان ذلك مجرد مقطع عرضي تجتازه كل الشعوب التي أنهكها الاستبداد وخدرتها الوعود وخدعتها الشعارات. وواضح ان هذا التأثير العرضي، لا يقتصر في دوره التخديري على الشعب ونخبه، بل يتجاوزهما إلى الطبقة السياسية الفاسدة المهيمنة، فيوهمها بفعالية سياستها في تطويع الشعب واستكانته!
ولكي يصبح نقاش النخبة مجدياً وفعالاً في مقاربة المشهد المصري، لابد من الالتفات لأوجه الاختلاف التاريخي والمجتمعي، ولكن الأهم من ذلك، التوقف عند مكامن الأمثولة التي لا تتكرر اعتباطاً!
وتظل لنا أمثولتنا التي يمكن أن تستعاد وتُثرى، لتصبح أكثر مضاءً..!