محمود عبد الوهاب من أشدّ ما يعانيه المبدع، موقفه من عصره أمام التطوّر التكنولوجي السريع والمذهل لثورة المعلومات والاتصالات، وتأثيرها العميق في التحوّلات الجوهرية للأصول الثقافية والمدينية والسياسية التي غالباً ما كانت تسود في صورة تأملية وفلسفية في عصرها.
وصف برتراند رسل في عام 1931 المجتمعات في ماضي تاريخها بأنها مجتمعات محلّية في المكان، لقطيعة التواصل المعرفي بينها بسبب صعوبة الاتصال المكاني، مُضفياً على عصرنا صفة المحليّة في الزمان، لانصراف هذا العصر إلى ذاته وعلومه ومعارفه الحديثة، عازفاً عن ماضيه وتراثه. من المؤكد أن هذا الوصف تتمثل حقيقته في حقبته الثلاثينية. بعد منتصف القرن العشرين "نهض عالَمٌ جديد شجاع من رماد العالم القديم". هكذا يرى معظم مفكّري الحداثة قيامة العالم الجديد. بعد السبعينيات من القرن الماضي بدأت التحوّلات الكبرى في الممارسات الثقافية والسياسية والاقتصادية بتأثير هيمنة التكنولوجيا في الحياة العامة حتى تمكّنت هذه الهيمنة من تأسيس حالة تأريـخية جــديدة فـي الغرب، وصـفها (ديفيد هارفي) بـ(حالة ما بعد الحداثة) مُكرّساً كتابَه الذي جاء بالعنوان نفسه، لدراسة أصول التغيير الثقافي في ضوء منهج موضوعي، يعتمد التوثيق والنقد والتطبيق في تحليل تقنيات الممارسة الثقافية. يذكر هارفي أنّ الإنتاج الثقافي وتسويقه، بمعايير العولمة، كان عاملاً مركزيّاً في انضغاط الزمان - المكان، الذي مكّننا من أن نرى، ونحن في غرفة جلوسنا صور الخارج: الشارع، المباني، المتاحف... إلخ. كم كان الشاعر بول فاليري (1871 – 1945) رائياً مدهشاً حينما قال:"تماماً كما أن الماء والغاز والكهرباء باتت تُجلَب إلى منازلنا من بعيد لتلبية حاجاتنا إزاء جهد نبذله، فسيأتي اليوم الذي يَمدّنا بالصور البصرية أوالسمعية، تظهر أوتختفي بحركة يدٍ بسيطة". العلم والفن هما وحدةُ المعرفة، لا يمكن لمبدعٍ في عصره أن يغفل التحوّلات التي جاء بها العلم وتأثيرها في الممارسة الثقافية والإبداعية. ما يأتي به العلم لابدّ لبعض كشوفاته من أن تكون ذات تأثير في عمل الفنان المبدع، فوحدة المعرفة تأثير وتأثر. المبدع في قلب عصره لا خارجه، كيف يتسنى للمبدع أن يقنع قرّاءه إذا كان هوحالماً في عصر يقظٍ مفتوح العينين. إن سطوة العالِم على الحالِم أصبحت حقيقة. نصوص العصر الإبداعية لابدّ لها من أن تتمثل تصوّرات الجمال السائدة في عصرها. إنّ قِيَماً جمالية جديدة تُلزم المبدع الذي يعيش عصره، أن يوظّف هذا الجديد من كشوفات عصره الجمالية في نصوصه. كانت دراسة تودوروف (مدخل إلى الأدب العجائبي) مثالاً على إغفال السياقات المعرفية التي اكتسبها النص من عصره، بسبب تكريس تودوروف دراسته على بُنى النصوص وأشكالها من دون ربط تلك الأشكال بعملية التشكيل الثقافي للعصر، ومن هنا جاء نقد الدارسين لكتابه. يقاوم عدد من الكتّاب التغييرات والتحوّلات المعرفيّة والعلمية الجديدة، فمنهم من لا يستسيغ الكتابة والقراءة بالكومبيوتر، ويرى أن الورق سيبقى وسيلة الكتابة، مصدر هذه القناعة الألفة الطويلة للورق. إن مستقبل الكتاب الورقيّ في عصر ثورة المعلومات يضع هذه الظاهرة في مقدمة الظواهر السيسيوثقافية التي يكرّس (علم المستقبليات) جهده لدراستها، إذ سيغدوالنص المطبوع نصاً منطوقاً عبر الحاسبات الناطقة كما في دراسات (دان سبيربز) وزميله ( ديبر دري ويلسن) المتخصصة بهذا الحقل. لم يتردد سبيربز الباحث في العلوم الاجتماعية في مركز CNRS في باريس، أن يعلن في محاضرة له عن قرب انتهاء عصر القراءة والكتابة، وذلك بإمكانية الدخول في المعلومات المخزونة بشكل منطوق في تلك الحاسبات. ومن هنا فإذا تحققت توقعات سبيربز، فسيؤول المتلقي القارئ إلى متلقٍ مستمع، وسيؤول المكتوب إلى مسموع، وفي السرد مثلاً يتحول السارد في الرواية المكتوبة إلى راوشـفاهي في الرواية المنطوقة، وستعود الرواية، في الوسيلة وحدها لا في المادة، إلى حكواتيّ كما بدأتْ. وهكـذا يتسلل العالِم إلى مخيّلة الحالِم.
سطوة العالِم على الحالِم
نشر في: 3 نوفمبر, 2009: 04:13 م