لا احد ينكر ان المستوى المعيشي في العراق الجديد، قد تحسن. ويستطيع أي ناكر جميل ان يتلمس ذلك، ويرصده ويتعقب آثاره الإيجابية على أوساط وشرائح واسعة في المجتمع. فقد ولّت "إلى غير رجعة " بفضل القيّمين على ولايتنا، مرحلة الحصار والاستبداد " القديم " التي جعلت من " شدّ الأحزمة على البطون " شعاراً وطنياً وقومياً، وكناية عن روح المقاومة والتصدي والصبر على المكاره والعدوان لدى شعبنا المُبتلى.
لقد تناسى الناس مرارات رواتبهم التي لم تكن تزيد عن ما يساوي في القيمة الشرائية، بضعة دولارات أميركية لا أكثر ولا أقل. وهي لم تكن تكفي أجرة نقل إلى موقع العمل لتسلم الراتب، فكان ضرورياً معالجة ذلك بتسلمه مرة كل بضعة اشهر ليساوي مشقة الخروج والعودة إلى البيت ركوباً، لا تَرجُّلاً. لكن الكثرة من هؤلاء المواطنين، ممن زادت دخولهم فأصبحت بالمئات بدلاً من البِضعة المشؤومة، يتحسرون على "سلّة" البطاقة التموينية التي كانت تغطي احتياجاتهم، ولو على كفاف لأسبوعين وربما أكثر. وما لم يتغير في مشهد العراق الجديد عن ماضي بلاد السواد، هو أوضاع ولي الأمر وبطانته والحاشية، وسُرّاق المال العام وطبقة الفاسدين، والغلبة من الموسرين، ممن يعيشون على خط التماس مع هؤلاء جميعاً.
كان الحاكم يومذاك، وهو يُطلُ من على شاشات التلفاز الأجنبية، يضرب على بطنه المتكرش مفاخراً ومستفزاً، وهو يقول: دعهم يواصلون حصارهم، فلحم الغزلان يكفينا، ويفيض..! ولم تكن " النقمة الصامتة" على ذلك المشهد يومذاك، تبطلَ وضوء أحد أو تغنيه عن مسبغة، ما دامت النقمة والإنكار حبيسة الضمائر، مستورة عن الحاكم وعشيرته وعيون تابعيه. فلم نكن قد اُبتلينا بعد بـ"أولياء الله على الأرض"، ممن تعفّرت جباههم بوشم الكراهة لقيم الدين باسم الدين، والورع باسم الرذيلة، حتى امتلأت الدنيا بفضلهم جوراً وفسقاً وفسادا..
اصبح الناس الذين تحسّنَ معاشهم، يسترجعون اليوم بقايا أحلامهم المُضَيَّعة، في أشهر رمضان مبارك، التي مرت عليهم في ظل كوابيس الاستبداد والحرمان، وهم يستشرفون وعداً، بحياة إنسانية كريمة، تظلِّلُ حياتهم بالرحمة والعدالة والحرية وحُسن العاقبة. لكن أكثريتهم يستعيذون بالرحمن، من الأشباح التي باتت تطاردهم، فوق ما كانت عليه أحوالهم في زمن الاستبداد الآيل للنسيان، بحكم تراكم الكبائر الصادرة عن أراذل أولياء أمورنا في هذا العهد الجديد، ومفاسدهم ومعاصيهم، وافتضاح سرائرهم وشراهتهم في اكل الحرام. وإذ تراجع هم الحذر من أشباح العسس التي كانت تنام معهم في مخادعهم، وتتلبس الأطفال والزوجات والأخوات، صارت أشباح المُكفِرين والمُزنّرين بالأحزمة الناسفة، وزوار الظلام من القتلة على الهوية والمهنة والجنس، بالكواتم، تتربص بهم في كل خطوة. وإذا ما كتب لبعضهم السلامة، فلا مفر لأكثرهم دماثة خُلقٍ أو نأياً عن الخطأ والخطايا، من مصيرٍ محزنٍ بأخمص بنادق أفراد "سوات" المؤتَمِرة بفرمان آكل لحم الغزال المذبوح على هداية طائفية.
وفي كل حال، لقد هل علينا رمضان وقد نسينا دعاء الأيام الخوالي، حين كنا نعدد أيامه واشهُره الحُرم، ترقباً لمرتجى انحسر وتوارى طوال عقود، وتوهمنا مع كل عام جديد، أننا نستعيد البشارة مع رمضان الكريم، أي رمضان، لكنه ظل يهل ويحل، دون هلال عيدٍ يبشر بالرحمة الموعودة.
لم تكن كل الأماني والتشظيات المتكسرة على أعقاب المستبدين الخوالي والجدد، تساوي ضياع آهات وأنين الأطفال والصبيان والأرامل والشيوخ والمرضى، والعاطلين وذوي الشهداء، من المطمورين في بيوت الصفيح والطين والعشوائيات العارية، الفقراء والمعدمين، وهم معشر المحشورين بصدقٍ وإيمان عميقٍ، بلا مُراء في مملكة الرحمن، متمسكين بصيامهم لوجهه وحده، متوحدين مع حكمته، شاخصين أبصارهم نحو ملكوته، صابرين على مضض وعسر..
هل لآهات هؤلاء من الجوع الدائم مع التمسك بأذيال الفضيلة والإيمان منزهاً عن الغرض، ان يجرد صيام ظالميهم والمتلاعبين بخيرات وثروات وطنهم وسارقي مصادر رزقهم، من الأجر والمغفرة ومرافئ التقوى؟
رمضان كريم، وفي وطننا أكثر من عشرين مليوناً من المسلمين، يعيشون تحت خط الفقر، ومنهم من سيعتاش في هذا الشهر الذي خصه الله بهم، على فتات موائد أدعياء التقوى والورع في المنطقة الخضراء ببغداد، والمناطق الخضر في المحافظات الأخرى..
اللهم اكسر شوكتهم، وفرق شملهم ، ولا تتقبل صومهم ولا صلاتهم ولا حجهم، ولا خمسهم ولا زكاتهم، فإنها من مال حرام.
رمضان كريم..!
[post-views]
نشر في: 12 يوليو, 2013: 10:01 م