عبادة الصيام ليست حكراً على المسلمين، فقد كُتب الصيام على الذين من قبلنا، بيد أن صيامنا مختلف عما سواه. والصيام في الأديان الإبراهيمية الثلاثة عبادة وطاعة لأوامر الله سبحانه وتعالى، وهو في الوقت نفسه ترويض للنفس، وترفُّع عن الغرائز البدائية، وتجريب لمعاناة المحرومين.
كان التعبير عن اختلال صيام المسلم في الماضي أن يقال له إنه لم يعرف من صيامه إلاّ الجوع والعطش. قال نبينا محمد ( ص ) في هذا السياق: (من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)، والمقصود أن الصيام لا يتحقق فقط بالامتناع عن الطعام والشراب بل يجب أن يشتمل على تجنب الأقوال والأفعال التي تعد زوراً، وغير ذلك من الآثام.
أما في عصرنا الحاضر فأكثر المسلمين لا ينالهم من الصيام حتى ترك الطعام والشراب، ناهيك عن اشتراطات الصوم الأخرى! في كثير من بلاد المسلمين قُلب شهر رمضان من شهر عبادة وترويض للشهوات، إلى شهر تسلية وانفلات للشهوات، التي لا تقتصر على شهوتي الأكل والشرب، بل تتعداها إلى شتى أشكال الملاهي البريئة وغير البريئة. تعوّد كثير من الناس على قضاء نهار رمضان في النوم وليله في السهر والأكل والشرب والتفرج على المسلسلات الهابطة في قنوات التلفزيون التي تتسابق على تقديمها للناس لتحقق مكاسبها من الإعلانات التجارية التي تتخللها.
يتسابق الناس قبيل قدوم الشهر على الأسواق وشراء مختلف أنواع الطعام والشراب وكأنهم في حالة (تعبئة) للإقبال على حرب أو مجاعة مرتقبة أو رحلة طويلة في صحراء قاحلة. تتكدس المؤن في البيوت، وتقدم على موائد الإفطار والسحور شتى أنواع الطعام والحلويات التي لا تخطر على البال في سائر الأشهر، وبالرغم من التوسع في الأكل والشرب، إلاّ أن الفائض من الطعام يملأ حاويات القمامة في كل مكان، حيث يستنكف أكثر الصَّائمين من الاحتفاظ بالفائض من الطعام لتناوله في الليلة التالية.
وحتى فيما سوى هذا الشهر الكريم، تعوّد المقتدرون وغير المقتدرين من الناس على الجلوس إلى الموائد الحافلة، فلا يشعرون بالاكتفاء إلاّ إذا تبقى على المائدة وفي الأطباق أكثر من نصف الطعام المقدّم. صار تكويم الطعام في الصحون وتركه بعد أكل القليل منه ثقافة، تتجلى في أشد صورها عندما يترك لهم المجال لأخذ ما يريدون من الموائد التي تعرف بالعبارة الأجنبية) البوفيه) .
أتمنى أن تُجرى دراسة علمية تبحث في التغيرات التي تطرأ على أوزان الصائمين خلال شهر رمضان. من الناحية النظرية يفترض أن تنقص أوزان الصائمين، فالأكل والشرب يقتصران على الفترة الليلية من جهة، وهذه الفترة تتخللها صلاة القيام خلال كل الشهر، والتهجد خلال العشر الأواخر من ليالي رمضان، كل ذلك يؤدي إلى اقتصاد في الأكل والشرب، وكثير من الحركة والنشاط. أما المتوقع من الناحية الموضوعية، بناءً على ما أراه من إقدام الناس على الطعام، ومن خلال متابعة بعض من أعرفهم، ومن خلال استفساراتي التلقائية، أن تنتهي الدراسة إلى نتيجة أن متوسط وزن الصائمين يزيد خلال شهر رمضان بدلاً من النقصان. دراسة أخرى يمكن أن تُجرى حول استهلاك الأدوية التي يتناولها مرضى السكري) خلال شهر رمضان، فالمنطق العلمي الطبي يقول إن في الصيام علاجاً لمرضى السكري الكبار، حيث يفترض أن ينخفض احتياجهم للعلاج، ولكنني أتوقع أن تكون النتيجة عكسية !.