البحث في المصطلحات ومدلولاتها، خصوصاً حين يتعلق المصطلح بالمصالح المباشرة للمجتمع، همٌ نخبويٌ يضيع في متاهاتها العامّة وفقاً لرؤية ثقافية، أو تعنت في نحت المعاني، بغض النظر عما إذا كانت مفهومة وقريبة من أذهان القاعدة الشعبية الواسعة. ومن هذه المصطلحات المبهمة من وجهة نظر هذه القاعدة، الثورة والانقلاب وما بينهما من خطوط تماس وتعارض واختلاف. وقد التقط العراقيون صبيحة ١٤ تموز ١٩٥٨، المعنى المباشر والواضح من الإطاحة بالنظام الملكي، وإقامة الجمهورية الأولى على أنقاضه، من المناخ العام الذي أحاط بالمشهد السياسي، وتمثل في الحريات التي شملت المجالات الحيوية التي لم يألفها الشعب ولم يمارس طقوسها، أو يتعرف على مظاهرها وتجلياتها طوال عقود حياة الملكية.
وكان رد الفعل المباشر للمعنى الذي التقطه، احتضانه لعملية التغيير واعتبارها " ثورة " شعبية، وتحولاً في مجرى التطور السياسي والاجتماعي والاقتصادي. فالتحرك العسكري والإجراءات التي رافقته في تطويق هياكل النظام الملكي، والانقضاض عليها في ساعات الفجر المبكر، ترافقت منذ البيان الأول، مع حشد جماهيري ضم مئات الآلاف، من مختلف قطاعات ومكونات وألوان الطيف العراقي المتعدد. وكأن هذا التحشد الذي غطى المشهد السياسي، وتمدد في كل أنحاء البلاد، شكل تعبيراً " مُضمراً "، عفوياً، لتوليف معنى جذري للحدث ، عبر اندماج حركة الضباط الأحرار بوصفها انقلاباً، وفقاً للمعنى المصطلحي، وتوصيفه، مع الحركة الشعبية الجماهيرية بأقصى حدودها، من حيث المشاركة العددية، والتمثيل السياسي والطبقي الذي شمل الفلاحين والعمال وذوي الدخل المحدود والفئات المتوسطة من المجتمع، بالإضافة إلى جموع المثقفين، وكل المتضررين من النظام الرأسمالي شبه الإقطاعي الممالئ للاستعمار.
لكن التغيير لم يكتسب جوهر معناه من وجهة نظر القوى الاجتماعية التي احتضنته، إلا حين أرسى أسس تحول اجتماعي اقتصادي سياسي، فحرر الفلاحين من أسر الإقطاع، واسقط حلف بغداد، واستعاد سيادة العراق واستقلاله، عبر تدابير وقرارات وقوانين متلاحقة، توجها بقانون رقم ٨٠ التي استعاد بموجبه الأراضي غير المستثمرة من شركات النفط، وقانون الإصلاح الزراعي.
ان العراقيين، والفلاحين على وجه الخصوص، الذين تحررت إرادتهم من عبودية الإقطاع، لم يتوقفوا عند المفاهيم الاصطلاحية، ليحددوا جوهر التغيير الذي تم في صبيحة تموز وتسميته، إذ أدركوا، بما تلمسوه في التطبيق العملي والتحولات التي طاولت حياتهم بكل جوانبها، ان الحدث الذي اقدم عليه العسكر، إنما كان ثورة، وان الإجهاز عليه في ٨ شباط ١٩٦٣، لم يكن سوى انقلاب.
وحتى اليوم تحتفظ ذاكرة من تبقى من ذاك الجيل، ومن ذريتهم، بالإنجازات والقيم التي جاءت بها ثورة ١٤ تموز ١٩٥٨، والمكانة الخالدة لزعيمها عبد الكريم قاسم، دون ان يتعاطفوا أو يتسامحوا مع ما يمكن أن يُقال عن التصدعات التي تعرضت لها مسيرة الثورة، أو الأخطاء التي ارتكبتها قيادتها السياسية، وتقييدها للحريات، أو انحرافها عن بعض مساراتها.
أنها تُعرّف، بفطرتها وحسّها، الثورة كتحولٍ في حياتها ومحيطها ومناخ علاقاتها. وتسمي ما يتعارض مع ذلك، دون كثير من اللف والدوران، بالانقلاب.
هل يمكن ان يصلح هذا المعنى في تفسير ما جرى في مصر في الثلاثين من حزيران، حين التقط العسكر، نبض أكثر من ثلاثين مليونا حاشداً من الجموع المصرية، ليبادر للاندماج معها ويستعير إرادتها، فيعيد إليها القصر المارق، دون ان يمسك بزمام السلطة، ويهيمن عليها؟!
١٤ تموز ١٩٥٨.. كيف يتحول الانقلاب إلى ثورة؟
[post-views]
نشر في: 14 يوليو, 2013: 10:01 م