سؤالٌ لا يُطرح إلا حين تكون الأحوال بدرجة من الاستعصاء، بحيث تُحار معها العقول، وتكاد تُصاب بلوثة اليأس من هول الواقع المر، وفداحة المصاب أينما وليّتَ شطرك! ولست في شكٍ من أن أحوالنا بلغت شأواً تجاوزت فيه أو تكاد مرحلة الاستعصاء في تدبير أمور الناس ومعاشهم، وأمنهم والحفاظ على كرامتهم من الإهدار.
ويظل السؤال، من أين، والاستعصاء في أي وجهٍ من وجوهه؟
فالاستنزاف شاملٌ، لا يستثني مجالاً حيوياً أو طرفاً في الدولة المستَضامَة دون وجه حق، لأنها ليست حتى ظِل دولة، أو لم يترك لها السلطان فسحة لتصبح دولة في طريق التكوين والتكامل.
فالدولة العميقة لا تستقيم، مع المظاهر التي أصبحت مِنْوَال حياتنا، ونسيج مجتمعنا المتشظي. وانعكاسات هذه المظاهر، تحولت إلى ظلٍّ ملازمٍ لكل فرد عراقي، حتى ان الواحد منا لم يَعُد يفرِّقُ بين ظله وذاته. وبات يشكك بسويته وقدرته على التمييز بين ما هو حقٌ وباطل، وحلالٌ وحرام. ومع ان العراق لم يألَفْ عهداً استقامت فيه الأمور، وبان فيه الفرق بين الخيط الأبيض والأسود، لتعاقب أنظمة الاستبداد عليه دون ان تمهله أو تمنح الشعب هدنة، يسترجع خلالها أنفاسه ويتدارك فيها مصائبه وويلاته، فان الأمل ظل يراوده في أن تحل معجزة من الغيب، فتنهي المحنة التي تحولت مع الزمن إلى قدره ومنتهاه. وما أن بانت بارقة أملٍ، حتى صحى على كابوس "العراق الجديد" الذي اغتصب الدولة فيه رعيلٌ من الفُسّاق واللصوص وفاقدي الذمة، وتحول الأمل المفجوع بذلك الى حالة استعصاء لا فكاك منها، أو هكذا تتراءى في يومنا هذا.
من أين نبدأ إذن، في العمل لتفكيك حالة الاستعصاء التي تحيط بنا من كل صوب..؟
لعل في القضاء ودوره "خيط" النجاة لبلدنا وشعبنا، إذا ما انتفضت نواته التي ضامها الضيم، كما كل أفراد مجتمعنا المغّيب عن ادارة ما من شأنه خلق شروط انعطافةٍ، تنقله من حالٍ الى حال. فتفك أسره واغتصاب إرادته، وتخريب بُنى دولته، وإغراقها بالفساد والرشى، وانعدام الذمة، وغياب أي نعمة من خيرات البلاد التي باتت حكراً على النهّابين، ومرضى النفوس.
ولا بد ان تتخذ انتفاضة هذه النواة التي لم تُفسِد ضمائرها بعد، من مشكولي الذمة الآتين من كهوف الجاهلية الأولى، رغم ما توحي به مظاهرهم من جلباب الورع والتقوى، وهم اقرب ما يكونون، إلى ملامح إبليس المخاتل وتجلياته، وهو يتسلل كشبح بين الناس... لا بد ان تتخذ صيغة تساؤلات حول مدى انسجام ما يدور حولهم.. في وطنهم ولأبناء شعبهم، مع قيم العدالة والقانون. وهل لكل هذه الاستباحات التي ترتكب كل يومٍ، فيُقتَلُ العشرات والمئات، وتُسجل على مجهول، ويظل القاتل يتحرك طليقاً حراً، يتحين الفرص لجولة جديدة من حفلات القتل.. وهل لهذا النهب للثروات وانتشار مظاهر الفساد والتعدي على حريات وحقوق الإنسان، والتلاعب بالدستور، من علاقة بما درسوه وعاينوه في تجارب الأمم، وأساطين العدالة عبر التاريخ؟
ويقع على عاتق النواة في قلب القضاء المستكين في دولتنا، اللا دولة، أن تتساءل، إن كان ثمة وقت للتساؤل، عن السبب وراء تسجيل كل الجرائم ضد مجهول، مع ان القاتل والمحرض على القتل يظل مستظلاً بمقام أولياء الأمر والنهي، في وطننا المخبوء في ضمائر من لم يرتض مهانة كهنته..؟
على هذه النواة، ولعل في الأمل أن تكون موجودة، ان تتساءل عن معنى تراشق قادة البلد، بدءاً من رئيس مجلس وزرائه، مروراً بأمراء الطوائف، آكلي السحت الحرام، بملفات الفساد، دون ان يطال أحداً منهم ما يفرضه القانون من ملاحقة وقصاص لمن يخفي أثراً لجريمة أو يغطي على جرمٍ مشهود وموثّق!؟
على هذه النواة من قضاتنا الشرفاء، ممن ظلت اياديهم بيضاء وضمائرهم مضيئة، وعقولهم مفتوحة على التقاط الحقيقة، التساؤل عن سر تبخُّر مئات المليارات من الدولارات، باعتراف المسؤولين، والخراب محيط بشعبهم مثل السوار في المعصم، ولا احد يصبح موضع ملاحقة وقصاص، لا أحد على الإطلاق.
على هؤلاء القضاة المرتجى وجودهم، ان وجدوا، ان يسألوا انفسهم: ألا يثير غيرتنا، مشاهد القضاة ورجال القانون في مصر العظيمة، وهم ينتفضون بغضب ضد تدخل رئيس الدولة المعزول في شأن من شؤون السلطة القضائية، عندما أقدم على عزل النائب العام وتعيين بديل له، خلافاً لمجريات القانون؟ وألا يعني عندهم مدعاة للشعور بالمهانة، إذ يتابعون قضاة مصر، شيوخ قضاء وشباب وهم يترافعون مع الشعب، ويفندون تجرؤ رئيس الدولة المنتخب، وليس المُعين على كراهة من الأكثرية مثل رئيس مجلس وزرائنا، على إصدار اعلانٍ دستوري، يتغَوّل به فيصبح فرعوناً، لا راد لقراراته، أو رادع لتعدياته على سلطة القضاء؟
وأخيراً.. هل لنا ان ننتظر اللحظة التاريخية التى نرى فيها مجلس القضاء الاعلى، وهو يُصدر قراراً بِرَد إجراءٍ أو تدبيرٍ جائر للسلطان، وهل لنا لن نعيش لحظة إصدار المجلس لامرٍ قضائيٍ بحبس لص او محتال أو متجاوزٍ، من حاشية الحاكم بأمره أو حوارييه؟
وهل من قاضٍ، يجاهر بروح القانون، ويكشف المستور من مفاسد النظام؟ وللحديث صلة.
من أين نبدأ: في انبعاث نواة قضاء شجاع...؟
[post-views]
نشر في: 16 يوليو, 2013: 10:01 م