أصدر الصديق د. جمال الدين فالح الكيلاني كتابه الممتع "جغرافية الباز الأشهب في إثبات ولادة سيدنا وجدنا عبد القادر الكيلاني في جيلان العراق لا الطبرستان"، في محاولة موثّقة لإثبات أن المتصوّف الكبير عراقيّ المولد، من قرية جيل قرب المدائن.
يمكن للمرء أن يتساءل عن معنى (الثقافة) من جهة و(العروبة) من جهة أخرى، عندما يقرأ معطيات تَنْسب علماء وكتّاب العربية إلى جغرافيات وثقافات أخرى، مثل أن ابن عربي إسبانيّ (وليس أندلسياً وهو ما يلحّ عليه بعض الفرنسيين)، وأن سيبويه فارسي، وصلاح الدين الأيوبي كرديّ، وجمال الدين الأفغاني أفغاني، ومحمد علي باشا ألباني (أرناؤوط)، .. الخ.
علينا القول إن هناك إشكالية أوروبية في (النفي) تشابه بالمقلوب مشكلتنا نحن العرب في (الإثبات). كلا الاتجاهين يذهبان إلى المدى الأقصى، فالأول لا يرى إلى المعنى العميق لمفهوم الثقافة الوطنية التي يمكن أن يشتغل في سياقها مؤلفون يتحدّرون من جغرافيات متباعدة. مؤلفون جعلوا من هذه الثقافة الوطنية أو تلك (خياراً) لغوياً وانتماءً معرفياً، عن سابقة قصد حتى لو كانت لغاتهم الأم مختلفة. مفهوم الثقافة يتحول هنا إلى مفهوم عِرْقيّ، يُفترض أن لكل سلالة بشرية ثقافة متواصلة تجري عبر الدم وعلاقات القرابة. هذا الفهم المُضْمَر يطبَّق تقريباً على الثقافة العربية وحدها الموسومة، كما لو بالغريزة، بالبداوة والقبلية والجفاف وكراهية بعض الحقول المعرفية كالفنون الجميلة والفلسفة. لكن هذا الفهم لا يطبّق بهذه الروحية على الثقافات الأخرى، إذ لا يستطيع أحدٌ اليوم أن ينسب كبار كتّاب أمريكا اللاتينية إلى أصول هندية، ولا إلى الأصول الإيطالية والإسبانية التي قدِمَتْ منها بعض عائلاتهم بالبساطة التي يقع فيها الأمر في حالتنا. وحتى الكتاب الفرانكفونيون يُفْهَمون في النطاق الروحي للثقافة الفرنسية التي قبلتهم وضمّتهم، وهناك مثلاً كاتب من أصل أرجنتيني دخل في "الأكاديمية الفرنسية"، أعلى مؤسسة لغوية وثقافية في فرنسا. أن تكون فرنسياً الآن هو خيار ثقافيّ، هو أن تتفرنس، أن تقبل (الفَرْنَسة)، أي الثقافة الفرنسية عن طيب خاطر.
بعد سنوات طوال لن يستطيع أحد أن يتهم أسلافَ مهاجرٍ أجنبيّ بأنه ليس فرنسياً بسبب لقبه أو كنيته. لن يستطيع أحد اليوم أن يقول أن بلادور، رئيس الوزراء الفرنسي السابق، ليس فرنسياً رغم أن اسمه يقول لنا أنه من "بلاذر" = البلاذري!، ومثله ساركوزي وبعض عظام الثقافة الفرنسية المولودين من أجداد أجانب.
أما العروبة فقد فهمت أيضاً لوقت طويل في بلداننا على أنها انتماء عِرْقيّ افتراضيّ صاف وليست خياراً ثقافيا، من جهة، ووقع من جهة أخرى نفيٌ معاكِس لا يعترف إلا بصعوبة بالأصول الثقافية غير العربية لبعضٍ من كبار مثقفينا كالجرجاني وابن المقفع والشهرستاني والفارابي وابن سينا (يُصرّ البعض على أن الأخيرين من أصول عربية صافية) والمئات غيرهم. ما الذي يفيد نفيٌ أيديولوجيّ كهذا الثقافة العربية؟. لا شيء. الخيار الثقافيّ وحده فقط، يجعلنا نفهم الأمور بشكل سليم، وأحسب أن هناك، مثلنا، مَن يعتبر مفهوم (العروبة) خيارا ثقافياً كالفَرْنَسة تماماً.
هذا الخيار ينسجم مع طبيعة تكوين بلداننا في العراق وبلاد الشام ومصر التي تتكون، بطبيعتها، من ثقافات وديانات، وشهدت بسبب وضعها الجغرافي على تخوم متنوعة، هجرات ثقافية من طرف التركمان والفرس والروس والهنود والشيشان ومن آسيا الوسطى والصين والروم وغيرهم. لقد اندغم الجميع في لحظةٍ ما بالثقافة العربية، واتخذوها إطاراً فرديا خالصاً لوعيهم الثقافي.
الكيلاني بغداديّ عريق (أو فارس بغداد كما تقول أنشودة الحضرة التونسية) بالمعايير الثقافية، وُلد قرب المدائن أو في غيرها.
الشيخ عبد القادر الكيلاني: درس في معنى (الثقافة)
نشر في: 19 يوليو, 2013: 10:01 م
انضم الى المحادثة
يحدث الآن
ملحق عراقيون
الأكثر قراءة
الرأي
جميع التعليقات 23
رشيد الخيون
الشيخ عبد القادر سن سنة حسنة بإحاطة التصوف بروحيته، وجهده في إدامته، فاليوم حيث تجد القادرية ينتصب أمامك الشيخ عبد القادر الكيلاني، الباز الأشهب، بنظرة واثقة مشجعة على السلم الاجتماعي بعيداً عن تسييس الدين وتحزبه، وللتصوف القادري دوراً مرموقاً في هذا المج
رشيد زيد الكيلاني
جزاكم الله كل خير على اهتمامكم بالموضوع فالكتاب ثمين ووفق الله المؤلف لكل ما فيه اثراء لحضارة وثقافة الامة
د.عبدالستار الراوي
يسعدني أن أنوه برصانة إنجازكم العلمي الموسوم (جغرافية الباز الاشهب) واشيد بالنتائج القيمة التي توصلتم اليها تدقيقا وتحقيقا ، وما حظيت به جهودكم في هذا السفر من الاهمية والاعتبار، بشهادة ذوي الرأي والاختصاص . إن إختياركم شخصية السيد عبدالقادر الكيلاني ، عن
د.عبدالستار الراوي
يسعدني أن أنوه برصانة إنجازكم العلمي الموسوم (جغرافية الباز الاشهب) واشيد بالنتائج القيمة التي توصلتم اليها تدقيقا وتحقيقا ، وما حظيت به جهودكم في هذا السفر من الاهمية والاعتبار، بشهادة ذوي الرأي والاختصاص . إن إختياركم شخصية السيد عبدالقادر الكيلاني ، عن
أ.د.طالب العنزي
اخي الباحث القدير د.جمال الدين الكيلاني اشكر لطفكم فيما تفضلتم به من اهدائنا مقال (تلويحة المدى...) امتداد وتواصل مع كتابكم القيم (جفرافية الباز الاشهب)لقد استمتعت بطرح الاخ الاستاذ شكر لعيبي بشان الصلة بين الارومات(الاعراق)والتكوين المعرفي والثقافي ولقد
raad
محاولة رائعة للتحرر من سوداوية الانغلاق الفكرى الى فضاء المعرفة الانسانى المفتوح فكانت اضاءة تستحق التوقف لبيان دلالة جغرافية الباز الاشهب وتاصيلها الثقافى
عبدالحسين محسن البزاز
الاخ الرائع الدكتور جمال الدين فالح الكيلاني ..انار الله حياتكم بالعلم وزانها بالمعرفة وكلل جهودكم بالفلاح والنجاح لما استقصيت من اثار مولانا الشيخ عبدالقادر الكيلاني - قدس سره الشريف - ما اغنى الباحث والمشتاق من الغوص في بحار التاريخ ليحصلوا على لئالئ ال
بوطبة قويدر
سيدي ربي إجازيكم علي هذاالطرح الذي يقطع لكل المشكيكين بأصل سيدي الكيلاني ونشأته ويؤكد جعرافيةالباز الأشهب لدكتور جمال الدين الكيلاني
د.يوسف زيدان ، الأسكندرية
هذا المؤلف جغرافية الباز الأشهب جهد مشكور من الباحث الدكتور جمال الكيلاني فقد برع في توضيح ما اختلط في كتب ثراثية كثيرة لها شهرتها ومصادرها الموثوقة في تأكيد أن الإمام عبد القادر الجيلي عراقي النشأة والوفاة وعندما نضئ هذه الصفحة من صفحات التاريخ لإمام جل
د.تاج محمد الطاف الحسين
مما لايقبل الشك ان هذا الكتاب يعد اضافة متميزة للدراسات التاريخية وللنقد السيري في ان واحد فقد سعى الباحث الكريم د.جمال الكيلاني لدراسة سيرة جده دراسة اعتمدت نقد الرواية التاريخية نقدا خارجيا وداخليا وترجيح النص بمقارنته مع الوقائع والادلة الثابتة ليميط ا
د.حسن الحكيم
اثني على الجهد الكبيرالذي بذله الدكتور جمال الدين في سيرة الامام والشيخ الجليل عبد القادر الكيلاني طيب الله ثراه من اجل تصحيح التراث الاسلامي وتنقيته من الشوائب بحق هذا الشيخ من اجل تنوير الاجيال القادمة وارشادها الى كيفية اثبات الحقائق التاريخية العلمية
د.عماد الجواهري
الدكتور جمال الدين الكيلاني المحترم تحياتي واسمى تقديري ان تصديكم للكتابة عن جدكم قطب بغداد الباز الاشهب بالطريقة التي جاءت وبالحقائق الجديدة التي وفقكم الله بالوصول اليها وتقديمها بطريقة بحثية راقية ورصينة. وباشراف كريم من استاذ قدير يعد احد منارات التا
عادل الشرقي
هنئكَ صديقي الغالي الدكتور جمال الدين فالح الكيلاني على هذا الإنجاز القيم الذي تحتاجه المكتبة العربية لتنهل من سفره وتجلياته الروح العراقية والعربية الكثير مما يسعد نفوسها ، ويثري أعماقها بما هو روحانيٌّ يقربها الله . لقد لفت انتباهي ما توفر عليه الب
أ.د. محمود صالح الكروي
الأخ الدكتور جمال الكيلاني رعاكم الله ... سررت جدا بما كتبه الاستاذ شاكر لعيبي عن الشيخ عبد القادر الكيلاني في معنى الثقافة ...والثقافة عند الشيخ الكيلاني اسلامية الا انه كتبها باللغة العربية ، واللغة منهج للتفكير وليست فقط وسيلة للتعبير ، والقرآن الكريم
د. فاضل التميمي
د. جمال الكيلاني د فاضل التميمي انت كبير بكتابك هذا وفقك الله لما هو خير للعراق.
فالح الحجية
ما تفضلتم به صحيحا الا انه كثير من علماء العربية وشعرائها وادبائها كانوا من اصول غير عربية او هم عرب سكنوا من بيئات غير عربية . فالسيد الشيخ عبد القادر الكيلاني عربي ابا واما ونفخر به باصوله العربية وكونه من ال بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ابا واما و
د. حسين الربيعي
شكرا لكم دكتور على العمل الرائع الذي بني على الاسلوب العلمي في تحليلكم للنصوص حيث يوجد الكثير من الامور التي تختاج الى تدقيق وتمحيص والتمعن في غربلة المعلومات وخصوصا للوصول الى الحقائق العلمية باستخدام ادق واهم المصادر في التقصي ناهيك عن جهد الباحث ورأيه
مهندس خالد صبحي الجيلاني
الحمد لله والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.. وفقكم الله بما هو فيه الخير والصلاح لهذه الامة من علمائها وشيوخها وسادتها وزيادة المعرفة .. ونسالكم المزيد .
قارئه
عربي أم اعجمي ؟ ، فالشيخ يحظى باحترام الجميع واجلالهم وهذا لا يتأتى إلا لمن سما عقلا وروحا عن سفاسف الامور وترهات المعاش ، اللذان لا يتقاطعان مع إيثار المرء لقناعاته وانحيازه التام لها ، لينتج فيما بعد عطاء انسانيا تتلاشى عند ضفافه جغرافية المكان والولا
عدنان فالح
مﻻحظتان أجد نفسي ملزماً على قولهما. المﻻحظة اﻷولى هي أن الكتاب، ومن خﻻل عنوانه الرئيسي، وكذلك الفرعي، يدلّ على أزمة يعيشها المجتمع ككل، وبالتالي فانها مشكلة ﻻ تمتّ بصلةٍ للكيﻻني. أما المﻻحظة الثانية فهي أنّ كتبا تهتم باﻷنساب _ وهذا ﻻ يقلّل من أهميتها بالت
ش/حسن تاج الدن على نورالدين
ان كتاب الدكتورجمال فالح الكيلانى خطوة جيده ف احياء روح التدقيق والتحقيق ف التاريخ الذى ظننا ف حين من الاحيان ان التاليف فيه قد جف ماؤه كماان الشخصيه التى تناولهاالشيخ شخصيه اضفت على الكتاب طابعاروحياوزادته بريقا باسلوب جيد رصين واقول للاخ الباحث شاكرلعيب
خليفه حسن الحضره
الغوث الاعظم الشيخ عبدالقادرالكيلاني قدس سره. من اعلام الدنيا والكاتب الدكتور جمال الدين الكيلاني اعتمد مصادر موثوقع وتكلم باسلوب علمي. ولم نر فيما جاء به ميلا الى شئ سوى الحقيقه التاريخيه.
د.عبدالعزيز الكيلاني
شكرا للدكتور فالح عى مجهوده وكتابه . و رأيي الشخصي أنه لا تناقض بين المعلق السيد شاكر و بين الباحث الدكتور فاضل الذي قصد اثبات منشأ السيد الشيخ الباز الأشهب من ناحية الجغرافيا أما نسب الشيخ فلا خلاف عليه سواءا كان بغداديا أم غير ذلك و لكن ما قصده السيد ش