في غياب المعايير المبنية على الكفاءة والنزاهة والعدالة، للاختيار في أي ميدانٍ أو مجالٍ حيوي، يستحيل تحقيق القيم التي تعكسها وتعبر عنها. وغيابها في وظائف الدولة ومسؤولياتها، خلافاً للمرافق الخاصة، يؤدي إلى تفسّخ الدولة نفسها وتدمير أسسها، وإلغاء وظيفتها التي تبلورت معالمها، عبر التاريخ. وهي تتجسد وفقا لمستوى التطور، والتشريعات المنبثقة عنه، في خدمة المجتمع وخلق التوازن فيه ومراعاة مصالحه وحماية أفراده وشرائحه ومكوناته، وفقاً للقوانين. بالإضافة الى تنظيم العلاقة التبادلية بين المجتمع والدولة، بما هي عليه من "حقوق" و"واجبات".
وبمحض الصدفة التي يصعب تكرارها، فان تجربة العراق تشكل نموذجاً عيانياً، للتأكيد على المراحل التي قطعتها الدولة وهي في طور التأسيس، وموقع السلطة القضائية في هذه السيرورة المُضنِية. وتتشكل ملامح هذه التجربة من مرحلتين متلازمتين : مرحلة تجريد الدولة من حياديتها النسبية، وإفراغها من توصيفها الوظيفي، ودمجها مع السلطة السياسية، وتكريسهما في سلطة الفرد، بحيث اصبح التلازم بينهما مرتبطاً بنيوياً مع سلطة الحاكم الدكتاتور الفرد، ولا فكاك لهما عن مصيره. ولهذا انهارت الدولة وأجهزتها ومؤسساتها، مع انهيار سلطة الحاكم الفرد، ونظام البعث.
واستكملت مرحلة ما بعد سقوط النظام الدكتاتوري السابق في نيسان ٢٠٠٣، ملامح "التجربة العراقية" فيما سُمّيَ بإعادة بناء الدولة، التي ظلت تراوح فوق خرائب "الدولة المستبدة" السابقة، وهي تنتظر استكمال البناء. ويتضح من سير التدابير السياسية والتشريعية التي اتخذتها السلطة المدنية للاحتلال، وتفاعل قوى العملية السياسية معها، واعتمادها في الدستور دون تمحيصٍ أو تَروٍ أو تدقيق، طابع الفوضى والعشوائية التي رافقتها، وأدت في مآلها إلى ضياع فرصة تاريخية نادرة لبناء دولة حضارية حديثة، يحول بنيانها دون عودة أي شكل من صيغ الاستبداد إليها.
وتكفي الإشارة، في معرض تبيان مكانة السلطة القضائية في بنية الدولة وطبيعتها وتأثيرها على تكامل وظيفتهما، إلى تدمير هياكل الدولة، مع انها تلاشت في واقع الحال، لتلازمها البنيوي مع سلطة الحاكم، مع الإبقاء على منظومته التشريعية مع التعديلات التي أُجريت عليها من قبل "مجلس قيادة الثورة" وعدم إلغائها، وهي في أغلبيتها تتناقض مع النظام الجديد، أو ما يُراد له أن يكون عليه ويعتمده من أسس ومبادئ وقيم ديمقراطية.
واتخذ الدستور منحى مُجارياً، خصوصا فيما يتعلق بالسلطة القضائية ومرجعيتها الدستورية، والتداخل فيما بينها والسلطة التشريعية، وخاصة لجهة تعيين أركان القضاء، بدءاً من تعيين رئيس مجلس القضاء الاعلى، وقضاة محكمة التمييز ورئيس الادعاء العام، ورئيس هيئة الإشراف القضائي. حيث تنص المادة ٩١ من الدستور على شرط موافقة مجلس النواب على تعيينهم، بدلاً من إيكال هذه المهمة الى رئيس الجمهورية بروتوكولياً، كما هو الحال في الدول الديمقراطية، وهو ما كرّس سطوة السلطة التشريعية على القضاء، وأخلّ باستقلاليته.
ولمعرفة الارتباك والتداخل والتأثير السلبي على السلطة القضائية وثلم استقلاليتها، لا بد من الأخذ بالاعتبار سياسة المحاصصة الطائفية المعتمدة والمتحكمة في قرارات مجلس النواب، في اختيار رؤساء الأجهزة القضائية وأعضاء محكمة التمييز ورئيس الادعاء العام، وانعكاس عواقب هذه السياسة في كل مرافق الحكومة والدولة، وهو ما يؤدي بالضرورة الى تغييب معايير الكفاءة والنزاهة والعدالة في الترشيح للمناصب المقررة في السلطة القضائية وتأثير ذلك على وجهة العدالة في البلاد، والسهر على صيانة الدستور والحقوق والحرمات.
وتستكمل هذا التشوه وحرمان القضاء من استقلالية سلطته، إناطة إدارة المعهد القضائي بوزارة العدل، خلافاً لما ينبغي ان يكون عليه ارتباطه بمجلس القضاء الأعلى.
إن خضوع قرارات مجلس النواب لنهج المحاصصة، المذمومة "كلامياً" من جميع قادة الكتل فيها، يحرم القضاء من الكفاءات "الموصوفة" ويُجَردها من قضاة يتميزون بالانحياز لقيم العدالة وحكم القانون، دون غيره من الانحيازات والاعتبارات الحزبية والطائفية. ويزداد الأمر سوءاً، حين يكون الاختيار للمناصب السيادية في القضاء، ضحية صراع الكتل والمناكفة التي تسود بينها، وإخضاع الاختيار لردود الأفعال والأمزجة التي تسود بينها في الموقف من المرشحين. كذلك الحال عند استمرار شغور مواقع مثل رئيس مجلس القضاء الأعلى، بسبب التقاطعات بين الكتل البرلمانية، لا على معايير الكفاءة والنزاهة، وإنما على خلفية التسقيط السياسي الطائفي.
وبانتظار بادرة امل في انزياح سطوة المحاصصة على القضاء، ينتظر مجلس القضاء الاعلى إعادة دراسة اختيار رئيس له، يحظى بمواصفات تنسجم مع ما يتطلبه من كفاءة ونزاهة ونظافة يد، ونأيٍ عن الاصطفاف الطائفي المقيت.
فهل يمكن اليقين باستكمال دولتنا "اللا دولة" في ظل سلطة قضائية يعتمد اختيار أركانها على مبدأ المحاصصة..؟
ومن أين ينشد المواطن العدالة، في ظل هذا الوضع الملتبس..؟
من أين نبدأ: هل يمكن "للمحاصصة" أن تجعل القضاء "مستقلاً" وعادلاً ونزيهاً؟
[post-views]
نشر في: 19 يوليو, 2013: 10:01 م