TOP

جريدة المدى > عام > النُّعمانية.. الخشية مِن تمرد لا يبقي ولا يذر!

النُّعمانية.. الخشية مِن تمرد لا يبقي ولا يذر!

نشر في: 20 يوليو, 2013: 10:01 م

تقع بلدة النُّعمانية، لمَن لا يعرف خارطة العِراق، بين بغداد وواسط (الكوت)، تبعد عن العاصمة جنوباً بنحو 148 كيلومتراً. قامت على الجهة اليمنى مِن دجلة، أي على جانبها الغربي. كان اسمها قبل ذلك البغيلة (مصغر مِن البغلة) نسبة إلى اسم السفينة "البغلة" النّ

تقع بلدة النُّعمانية، لمَن لا يعرف خارطة العِراق، بين بغداد وواسط (الكوت)، تبعد عن العاصمة جنوباً بنحو 148 كيلومتراً. قامت على الجهة اليمنى مِن دجلة، أي على جانبها الغربي. كان اسمها قبل ذلك البغيلة (مصغر مِن البغلة) نسبة إلى اسم السفينة "البغلة" النَّاقلة إليها البضائع عبر دجلة. بدأ السَّكن فيها بحدود العام 1886، ولما توسعت وازدهرت ابتاع السُّلطان عبد الحميد الثَّاني (ت 1918) أراضيها وأنشأ فيها محلاً لإدارة أملاكه، فصارت ناحية رسمية،  ولم تُسمَّ بالنُّعمانية إلا في أواخر 1930.
أما لماذا سُميت بالنُّعمانية؟ فذلك لامتدادها إلى أطلال النُّعمانية القديمة، والمعروفة حديثاً بتل النُّعمان نسبة إلى ملك الحِيرة (المناذرة) النُّعمان بن المنذر (ت 602 ميلادية) ابن قيس بن ماء السَّماء (مجلة سومر، أُصول أسماء الأمكنة العراقية، والحسني، العراق قديماً وحديثاً، وأصول أسماء المدن والمواقع العِراقية).
أقول ليس هناك شبرٌ  واحدٌ مِن أرض العراق، بطوله وعرضه وجهاته كافة، إلا فيه أثر مِن الآثار، بقية مدينة أو أطلال دير أو معبد أو دار إمارة، أو مكان معركة، هذا ما تداولته التواريخ. كان أرضاً حيَّة ولا نستغرب أن أكثر مدنه تبدأ بحرف (الباء)، وهو بالأصل مِن بيث (بيت أو ناحية بالآرامية) مثل بغداد وبعقوبا وباعذرة وباصيدا وباعشيقا وغيرها الكثير.
فلا نستغرب أيضاً أن النُّعمانية، قبل أن تكون داراً لرفاة الشَّاعر الذي شغل العصور وما زال يشغلنا أبي الطَّيب المتنبي (قُتل 354 هـ)، نشأت إلى جانب دير شهير في التَّاريخ يُعرف بدير العَّاقول، وحسب ياقوت الحموي (ت 626 هـ) يقع بين المدائن والنُّعمانية على شاطئ دجلة، وفي حياة الحموي كان "بمفرده في وسط البرية وبالقرب منه دير قنَّى"(معجم البلدان). يتبع  للمقاطعة الكنسية "بيث آرامي"، وهي المنطقة الكنسية الوسطى مِن العِراق(البير أبونا، ديارات العِراق). ولعلَّ لتسمية الدير بالعَّاقول وشيجة مع اسم الكوفة القديم "العاقولاء". كان المكان ما بين العاقول وقنَّى عامراً بالناس والشَّجر، فقيل فيه: "بين ذَين الدَّيرين جَنَّةُ دُنيا/ وَصفها زائدُ على كلِّ وصفِ"(معجم البلدان).
لا نتحدث عن دفين النُّعمانية أبي الطيب المتنبي، فهو أشهر مما يكتب المتأخرون عنه، وتكفي الإشارة إلى أبرع وأوثق مَن كتب، وذلك لقرب الزَّمن بينهما، وهو  أبو منصور عبد المَلك الثَّعالبي (ت 429 هـ)، وعلى ما أظن أنه ضَمن كتابه بأوسع ترجمة للشَّاعر مِن بين ترجمات الآخرين، حتى قال في خاتمتها: "وقد جمح بيَّ القلم في إشباع هذا الباب وتذييليه، وتصييره كتاباً في أخبار أبي الطَّيب"(يتيمة الدَّهر).
أما ضريحه فما زال قائماً، ويتردد عليه الشُّعراء، فقد دفن حيث قُتل وولده محسد، بعد عودته مِن بلاد فارس، واختلف المؤرخون في دوافع قتله، بين لصوص أو طالبو ثأر بسبب قصيدة هجاء، بل منهم مَن اعتبر قتله شأناً سياسياً، وتلك قصة طويلة. يقع الضريح قرب قرية الصَّافية المحاذية لدير قنَّى ودير العاقول، والمكان أصبح ضمن قضاء النُّعمانية (حرز الدَّين، مراقد المعارف). وأراه أثراً ليس بالقليل لأهل الأدب والشِّعر، فبعد أن جاب البلدان، مِن مصر والشَّام إلى بلاد فارس، رقد الكوفي الولادة قريباً مِن مسقط رأسه، فما بين النُّعمانية والكوفة مسافة قريبة.
أهل النُّعمانية لم يسكتوا على الفساد الذي تتعرض له مدينتهم حالياً، وهي الأرض التي زارتها وفود ثقافية وأدبية صلةً بدفينها أبي الطَّيب، وهي بلدة تعج بنشاط المجتمع المدني والنَّشاط الثَّقافي، وكم مِن مثقف وشاعر وفنان ووجيه حمل لقب النُّعماني. لكن احتجاجات النُّعمانيين، أو النعامنة إن صحت صيغة الجمع، كلما علت أصواتهم ضد الفساد وتأخير الخدمات وقلة الكهرباء قمعتهم قوات (سوات)، وهي يمكن تسميتها بقوات نوري المالكي أو حزب الدَّعوة بقيادته الجديدة. فالرَّعيل السَّابق مِن رؤساء الحزب قد انتهوا بين قتيل ومحذوف مِن الحزب.
أقول هذا لأن قوات سوات قيادتها بيد المالكي شخصياً، وبما أن المالكي يحكم باسم حزب الدَّعوة، فليس لنا إلا تسميتها بقوات المالكي وحزب الدعوة. ألم نسم الأمن والمخابرات والجيش السابق أمن ومخابرات وجيش صدام حسين، لأنه كان قائدها الأعلى؟ فما المانع مِن تسميتها بقوات المالكي؟ على أية حال، اشتهرت هذه القوات بمنقبة قتل مدرب فريق كربلاء محمد عباس، وحتى هذه اللحظة لم تظهر محاكمة للقتلة.
اعترض النعمانيون على شركة جاءت لمد المجاري في المدينة، وبين 2009 – 2013 مرَّ زمن أربع سنوات،  بينما العقد أن تنجز العمل بحدود ثمانية عشر شهراً، لكنها لم تعمل شيئاً، كغيرها تترك أغراضها وتفتح لها محلاً وينتهي الأمر! لأنها مِن الشَّركات الأعوان، فتظاهر النعمانيون ضدها، وطلبوا شركة أجنبية مختصة، ولم يكن لهم هذا. ومؤخراً تظاهروا لسرقة حصة مدينتهم مِن الكهرباء لحساب مناطق أُخر، فهددهم محافظ واسط، وهو مِن حزب الدَّعوة، وأحاطهم بقوات سوات نفسها، قامعة التظاهرات، خشية من تمرد ما، وها هي مفردة "تمرد" غدت مفردة خطرة على حكومات الإسلام السياسي.
وبعد أن حصل متظاهرو النُّعمانية على موافقة التَّظاهر مِن القائم مقام، هدده المحافظ بأنه سيجري تصويتاً في مجلس المحافظة لخلعه مِن منصبه، إذا لم يُقدم شكوى ضد المتظاهرين لتأديبهم. تصوروا عندما تتحول الدِّيمقراطية إلى أداة قمع كدكتاتورية مبطنة، وهي أشد خطراً مِن الدِّكتاتورية المعلنة. فرفع القائمقام على المتظاهرين، وجلهم مِن الشباب، دعوة قضائية، ولما فاتحوه بأنه منحهم الموافقة قال ضغوط عليَّ جاءت مِن المحافظة.
على ما يبدو أن النَّاس البسطاء لم يبقوا أسرى الخطاب الطَّائفي، أو الدعاية الانتخابية باسم الطَّائفة، فقد قال نفر مِن هؤلاء، وهم يرون القوات الخاصة تحيط بهم وتريد الانقضاض عليهم بتوجه عليهم سلاحها إليهم: "نحن شيعة ويفعلون معنا هكذا، فماذا يفعلون بأهل الرمادي وسامراء..."؟ هذه الكلمة ليس عابرة، إنما جاءت مِن صحوة بعد تخدير باسم الطائفة، وأجد وراءها حساً وطنياً، وشعوراً بالمسؤولية.
إن مطالب أهل النُّعمانية، وهي مطاليب بقية المدن والقصبات، لا تنحصر بمشروع المجاري الذي عطل تعبيد الطرقات فيها، حتى عسر على تلاميذ المدارس الذِّهاب إلى مدارسهم في أيام المطر، وفي الصيف الغبار يسد الرؤيا، ولا بالكهرباء التي صُرفت مِن أجلها عشرات المليارات ومازالت لا تسد الحاجة. تتلخص مطالب النُّعمانية الأُخر بإنقاذ الشَّاب الخريجين مِن البطالة، فبعد التخرج يعملون نادلين في المقاهي بأجر بخس. واكتشفوا أن التعيينات خاصة بمَن يستحصل وساطة مِن أعضاء البرلمان والمتنفذين.
أهل النُّعمانية نموذج لبقية أهالي المدن، تظاهراتهم غدت مخيفة، وقد تزايد هذا الخوف بعد التجربة المصرية، باستخدام عدم منح الرُخص للمظاهرات، وإن خرجت بلا رخصة طوقتها القوات الخاصة، هنا نعلم ما هي مهمة القوات الخاصة، فإذا كان العراقيون يستفيدون مِن تجربة المصريين في "تمرد" فإن رئاسة الوزراء استفادت مِن الحكومة المصرية (أيام مبارك) وقامت بما عُرف بغزوة الجمل، وهو استدعاء عشائر الإسناد والقوات لملء ساحة التحرير وقمع المتظاهرين بالاعتداء عليهم بالضَّرب، ولما لم ينفع ذلك عمدوا إلى اغتيال الصوت العالي في تلك التظاهرات هادي المهدي (2011).
إن بلدةً مثل النُّعمانية اشتهرت باسمها المنسوب لأشهر ملوك المناذرة وآخرهم، ثم ارتبط تاريخها بدير شهير هو دير العاقول، ومِن بعد رُفع اسمها برفعة أبي الطَّيب المتنبي، لا تغشها شركة مقاولات مثل شركة "المستقبل السعيد" (تأملوا الاسم) أو شركة "الرواق" التي سبق أن طردها أهل النَّاصرية. بل إن فيها مِن الحس الوطني الذي جعلهم يتحدثون باسم "المنبر الحر لأبناء النُّعمانية". الفساد بالعِراق، في الدِّماء والثروات، يستحق أكثر مِن تمرد وتمرد. إنها تظاهرات تخيفهم!
في الختام، لم أكتب هذا المقال إلا استجابة لرسائل وصلتني مِن شبابها، ولولا الخشية عليهم مِن قوات "سوات" ومحافظ واسط لذكرتهم بالاسم، وما ذكرتهم مِن معاناتهم قليل قياساً بما ورد في الرَّسائل!

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

القصة الكاملة لـ"العفو العام" من تعريف الإرهابي إلى "تبييض السجون"

الأزمة المالية في كردستان تؤدي إلى تراجع النشاطات الثقافية والفنية

شركات نفط تباشر بالمرحلة الثانية من مشروع تطوير حقل غرب القرنة

سيرك جواد الأسدي تطرح قضايا ساخنة في مسقط

العمود الثامن: بين الخالد والشهرستاني

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

موسيقى الاحد: الدرّ النقيّ في الفنّ الموسيقي

في مديح الكُتب المملة

جنون الحب في هوليوود مارلين مونرو وآرثر ميلر أسرار الحب والصراع

هاتف الجنابي: لا أميل إلى النصوص الطلسمية والمنمقة المصطنعة الفارغة

بيت القصب

مقالات ذات صلة

هاتف الجنابي: لا أميل إلى النصوص الطلسمية والمنمقة المصطنعة الفارغة
عام

هاتف الجنابي: لا أميل إلى النصوص الطلسمية والمنمقة المصطنعة الفارغة

حاوره علاء المفرجيهاتف جنابي؛ شاعر وكاتب ومترجم للأدب البولندي إلى العربية والعربية إلى البولندية. نشأ وتعلّم في مدارس العراق، وفي سنة 1976 توجّه نحو بولندا، لإكمال دراسته، ومن ثمّ للعيش فيها. منذ ذلك التاريخ،...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram