لا مكان ولا دور للقانون، في دولة لا تستند على المؤسسات، ولا تنهض على أسسٍ راسخة من الحريات.
وبدونهما ينعدم مفهوم الدولة، ولا يستقيم لها معنىً. فالدولة لا تكتمل دون أن تتوفر لها هذه الأركان الثلاثة:
القانون، والمؤسسات، والحريات.
والسلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية، هي التجليات والأدوات المعبرة عن هذه الأركان، بما تعنيه من بنىً وقواعد والتزامات ومعاملات وواجبات. والتلازم والترابط العضوي بين هذه السلطات، هما ما يكسبان الدولة معناها، وفيهما يتجسد تكامل مبناها ووظائفها.
وأول ما تعمد إليه الأنظمة الدكتاتورية والمستبدة، هو الإخلال بحيادية الدولة النسبية، وتفكيك مؤسساتها، وتقويض سلطتها القضائية، تمهيداً لتحويل الدولة بكل أركانها إلى دولة فرد أو حزب أو جماعة مهيمنة، تتحلل من أي التزامات أو قيم وتعهدات إزاء الشعب.
ومع انهيار الدولة الشمولية المستبدة في نيسان ٢٠٠٣، دشن العراق مرحلة اللا دولة، كيان مفكك، بلا ملامح، ولا مقومات. وأوغل الاحتلال، بما اتخذته سلطته المدنية من تدابير وتشريعات وإعلانات، مبتسرة، عشوائية، معزولة عن إرادة أصحاب العلاقة، إلى تشويه أيّ ملمحٍ لوجهة إعادة بناء الدولة الوطنية. وشكّلت تلك الخطوات، التي اتخذت طابع تشريعات ملزمة، إلى جانب الأطر الطائفية للقيادة الانتقالية المأسورة بها، قاعدة لإعادة بناء الدولة، على انقاض وخرائب الدكتاتورية. ومنذ تلك اللحظة المشؤومة تاريخياً، دشّن العراق الجديد، مرحلة ما بعد الاحتلال، بتقويض كل ما من شأنه نفض بقايا خرائب الدولة التي أنتجها وخلفها الاحتلال، ووضع الأسس الكفيلة ببناء دولة ديمقراطية، متكاملة الأركان. ولم يكن ممكناً تعهّد مثل هذا الالتزام الوطني التاريخي، في ظل نظام المحاصصة الطائفية، وتشوّه القواعد الخرِبة، وتفشي الفساد والتفسّخ، وإشاعة مناخ التصادم والاحتراب بين مكونات المجتمع. وزاد المهمة استعصاءً، الانفلات الأمني وتصاعد العمليات الإرهابية واتخاذها صيغة تكفيرية، وطابع اغتيالٍ وقتلٍ على الهوية.
في مثل هذا المناخ السياسي الموبوء، جرى تداول السلطة، والاستقواء من خلاله، بتوظيف كل تلك العوامل السلبية، لقضم ما تشكل من مقومات بناء الدولة، وعلى العكس تماماً، بدأت بوادر الانقضاض على شبه المؤسسات المستقلة، والسيطرة على الإعلام الرسمي وقنواته ووسائله، والتسلل إلى المؤسسات الأمنية والعسكرية، وتقويض استقلالية القضاء، وشل السلطة التشريعية، وتمييع أداء السلطة التنفيذية، بتدابير استباقية، ترافقت مع تصعيد سياسي وإعلامي أدى إلى وضع البلاد على شفى أزمة خانقة، شلّت قوى العملية السياسية وشرذمتها، وعطلت أي إمكانية للبحث في المهام الكبرى الملحة وفي مآل الدولة التي تراوح في مواقع اللا دولة.
لقد أدى قضم الدولة، وبشكل خاص تكميم إرادة السلطة القضائية، وشل إرادة السلطة التشريعية، وكلاهما مقيد بالمحاصصة، الى "تلزيم" الدولة المشتَبه بتكوينها، إلى طغمة متواطئة على الفساد، تتغول كلما تكاثرت أحمالها من المسؤولية في النهب والتخريب والتعديات واتسعت خيبتها من إمكانية الإجهاز على الدولة وتكريس سلطتها المتسلطة.
ومن المحال أن يجري البناء على ما هو قائم، انتظاراً لانعطافة، من اللا دولة، إلى الدولة الديمقراطية، في غيبة لاستنهاض القوى الكامنة لكل الناس، بغض النظر عن انتماءاتهم ومكوناتهم وأيديولوجياتهم، في هبة تضع حداً للطغمة التي استحلت استباحة إرادتهم وكسر شوكتهم.
بقي أن يلتفت كلٌ منا، باتجاه انقاض ما يقال عنه انه الدولة، ويبحث عن ملامح أركانها، ليرى مكامن الخلل وينتقل من الصمت الذليل أو الهمس المتردد، إلى قولٍ جهير، إن لم يكن في وسعنا أن نتخذ من سيرة "الشيّال" قدوة وجسارة.
إن من العبث تأمُّل عدالةٍ وحريات وخدمات ومساواة، من قضاءٍ مكبّل، وأشباه مؤسسات مقضومة الإرادة، في قوام دولة فاشلة ناقصة الأركان، اختطفتها طغمة تمرست على الفساد وأكل الحرام.
من أين نبدأ: في البحث عن قيامة دولة القانون والمؤسسات والحريات
[post-views]
نشر في: 20 يوليو, 2013: 10:01 م