TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > التيار الصدري و"البديهيات القاتلة"!

التيار الصدري و"البديهيات القاتلة"!

نشر في: 20 يوليو, 2013: 10:01 م

اكبر خطأ نرتكبه في حديثنا عن العراق، هو التسلح بالبديهيات "الزائفة". انها "بديهيات قاتلة" في بعض الاحيان. وأشرس نزاع قد ينشب داخل امة هو نزاع على بديهيات متناقضة، حين يبدو كل طرف مستعدا للموت من اجل قناعات "صافية لا يمكن التشكيك بها". وفشلنا في صناعة امة عراقية، يعود بمجمله الى اننا لم نتعلم الشك المسؤول في "الحق" الذي نزعمه لانفسنا.
والطابع الانتقالي الذي لاتزال البلاد "عالقة" فيه والبطء الذي يحيطه، وسوء الفهم، يتعلق بطبيعتنا كمجتمع تعود ان الامور "واضحة"، فهذا حق الدولة وذاك حق الناس، والكل مجبرون على "الرضا بالقسمة والنصيب". وفجأة كان علينا ان نتحمل المسؤولية بمفردنا، ننتخب ونناقش ونتعارك طبعا. ولا يوجد سبيل سوى هذه "العركة" لتحقيق تقدم، فالمعادلات القديمة لم تعد صالحة، وكل "البديهيات" تخضع للنقاش، سواء كانت لنا او علينا.
وملف الحريات المدنية الذي نجده "بديهيا للغاية"، يتقاتل مع "بديهة مضادة" على الطرف الايديولوجي الاخر الذي يعتقد ان من اوضح الواضحات وقوع تلك الحقوق "المدنية" تحت طائلة التحريم والتحليل. وصراع "الواضحات" هذا لم يؤد الى نتيجة، فكل طرف يعجز عن الغاء الاخر، ومن الجيد ان السلطة "توافقية وتشاركية" نسبيا، وإلا لنجح الطرف القوي سواء أكان علمانياً ام اسلامياً، في الاطاحة بخصمه ببيان واحد وبضعة افواج مقاتلة. لكننا نصل اليوم الى نقطة جديدة، هي امكانية ان "نناقش بديهياتنا" مثل كل امة متحضرة، والتفكير بمسؤولية حول لا جدوى الصراع الابدي. وهناك من نماذج التسويات ما يضمن ان يربح الطرفان، ليتقاسما هذا العالم الفسيح بسلاسة.ان هذا الكلام يدعو البعض للضحك، لانه "يخدش بديهياته الواضحة". وحين دخلت حوارا مليئا بالحراجة والصراحة، مع الدكتور ضياء الاسدي الامين العام لكتلة الاحرار، حول ملف الحريات المدنية في بغداد، وجسامة التحدي الذي يواجهه المحافظ علي التميمي، نجح الرجل في تقديم تصور نشرته "المدى" امس، وسيلاقي اصداء طيبة، لكنه ايضا يغيض ويغضب المتمسكين بعناد قديم بتلك "البديهيات" على الطرفين العلماني والديني.
لقد اوضحت على صفحتي الشخصية، ما صرح به الاسدي، فشعر الكثير من شيوخنا وشبابنا بالغضب، واعتبروا ان امثالي سيتسببون "بهزيمة العلمانية". وفي الطرف الاخر تعرض الدكتور ضياء ايضا الى اتهامات مماثلة، من قبل الاسلاميين لانه حسب زعمهم "سيقدم للعلمانيين تنازلات مهينة". ان فكرة الحوار حول القضايا الحقوقية والمدنية الخطيرة والحساسة، تبدو "مضحكة" لدى اولئك الذين تعودوا اعتناق "البديهيات" في عصر الشك الفلسفي العميق، داخل حقل ادارة المجتمعات، وتأويل الحق الانساني.
وهذا ليس امرا غريبا، فهي المرحلة الانتقالية البطيئة والمحاطة بالصخب والغضب. ومسؤولية ضياء الاسدي كإسلامي، ونظرائه في التيار العلماني، ان يتحلوا بمزيد من الصبر، على عبورنا البطيء من "اليقين المميت" الى "الشك المنهجي" الذي يسمح بتصميم تنازلات متبادلة تضمن كرامة الجميع، وتصنع التسوية الاجتماعية.ان الحوار بين القوى السياسية يمضي ويتواصل، حول قضايا تقاسم الثروة والسلطة. وقد قطعت شوطا فيه نماذج نجاح مهمة بقدر ما فيه من تخبط. وملف الحقوق المدنية ليس استثناء، ولابد ان يخضع لاسلوب ناضج وهادئ من التسوية، بدل ان تتحول شوارعنا الى ميادين حرب داخلية بسبب مقهى او مكان ترفيه، بينما تفجر تنظيمات الموت والانتحاريين، شبابنا وتلاحقهم في الملاعب والمقاهي والشوارع.
معتنقو "البديهيات المميتة" سيظلون غاضبين، في المعسكرين. وقد يكونون على حق في بعض اعتراضاتهم، اذ لم يتأسس بعد جو مناسب لنشوء الثقة المتبادلة. لكن التاريخ لا يصنعه اليقين، بل الشك المسؤول فيما يحق لنا وما لا يحق. وقد لا يمكن لاحلام ضياء الاسدي ان تحظى بهذا المناخ اليوم، وسط اطراف نفوذ كثيرة تريد تخريب كل شيء، لكن عراقيي المستقبل لن يجدوا امامهم خيارا متحضرا سوى هذا الحوار والتنازلات المتبادلة. وعلينا ان نعثر على لمسة في ذلك المستقبل.
الهيئة الاستشارية التي يفترض ان تعمل مع المحافظ في ملف الحريات، والتي يعمل الاسدي على مناقشة تأسيسها، لتضم ممثلي الشرائح المدنية ومراكز القوى الاجتماعية، هي امر سيحظى بمشاورات معمقة لتنضيجه، وهي اول بداية جادة للتعامل مع ملف الحريات منذ سقوط صدام حسين.
انها كذلك فرصة للاسلاميين كي يراجعوا علاقتهم المتوترة دوما، مع الطبقة الاكثر تعليما والتي تحلم بنظام حديث يحترم الحريات. لكنها فرصة للعلمانيين ايضا ليتذكروا ان الاعتراض الشديد لوحده لن يغير شيئا، وأن المطلوب هو "حزمة تفاهمات" تصوغها عقول نظيفة مدركة لحجم المصالح الاجتماعية وحساسية مفهومي "الدين" و"الحرية" في الوقت ذاته.
هناك فرصة طيبة "للانتقال" لا تلغي سوء الوضع وتعقيده، وتصريحات ضياء الاسدي، هي واحدة من "وثائق" السجال المدني والديني. تثير جدلاً وغضباً وشكوكاً، لكن في وسعها ان تفتح طريقاً جديداً، اذا حظيت بفهم هادئ وعميق، من طرفي الخلاف.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 6

  1. المدقق

    اتذكر وانت كنت تطبل وتزمر لفوز كتلة الاحرار بمنصب محافظ بغداد وكيف كنت شامتا من المالكي وحزب الدعوة لانك كنت تظن ان التيار الصدري سيطلق الحريات الثقافية والفنية ولكن سرعان ما تبخرت احلامك وظنونك بالصولة التي قام بها التيار الصدري على المقاهي وعمل الفتيات

  2. آريين آمد

    مهما حاولنا فان للاسلام السياسي اجندته الخاصة التي يستمدها من الشريعة الاسلامية.... والشريعة قاسية ولا تتحمل المناقشة... فالخمر حرام شرعا فكيف يمكن لنا ان نتوقع قبول اسلامي بالخمر او فتح بارات... كذلك في موضوعة اختلاط الجنسين فهو شرعا حرام... وهكذا في اغل

  3. رمزي الحيدر

    الاخ سرمد الطائي .لا تكن فيلسوفاً في دولة ينتشر فيها طاعون الفساد و الرذيلة و الاستخفاف بحقوق المواطنيين، نحن بحاجة الى أجراءات سياسية ، يحترم فيها المواطن على أنه أنسان وحقوقه لها حرمة لا يمكن التجاوز عليها ، يجب أن يكون هذا مفهومك للتحليل و ليس منطلقات

  4. د.صلاح الحداد

    الاستاذ سرمد المحترم ...مع اعجابي بما تكتب فانا اليوم مشوش جدا ...تعتقد ان الاسلاميين من امثال الاسدي ؟؟؟!! ربما ..عموما...كما قلت اانا امام مسؤؤلية لم نتعود عليها وهو المسؤؤلية الاجتماعية ....سوف ننتظر هذه التجربة التي تبشر لها ...ونتنمى ان تصدق النوايا

  5. الاخ الصغير

    اخوتي بالدين والوطن

  6. الاخ الصغير

    ايها المنتقدون للاخ الكاتب اراجعتوا ماكتبتم قبل نشره انكم تفعلون ما ترفضوه منه فالنجعل نقد نا ذات فائده عامه قبل المصالح الضيقه وانا اسف لما بدر مني لكني مضطر لذلك لانكم اخوتي

يحدث الآن

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمودالثامن: ماذا يريد سعد المدرس؟

العمودالثامن: الخوف على الكرسي

العمودالثامن: قضاء .. وقدر

العمودالثامن: لماذا يطاردون رحيم أبو رغيف

لماذا دعمت واشنطن انقلابات فاشية ضد مصدق وعبد الكريم قاسم؟

العمودالثامن: أين لائحة المحتوى الهابط؟

 علي حسين لم يتردد الشيخ أو يتلعثم وهو يقول بصوت عال وواضح " تعرفون أن معظم اللواتي شاركن في تظاهرات تشرين فاسدات " ثم نظر إلى الكاميرا وتوهم أن هناك جمهوراً يجلس أمامه...
علي حسين

كلاكيت: رحل ايرل جونز وبقي صوته!

 علاء المفرجي الجميع يتذكره باستحضار صوته الجهير المميز، الذي أضفى من خلاله القوة على جميع أدواره، وأستخدمه بشكل مبدع لـ "دارث فيدر" في فيلم "حرب النجوم"، و "موفاسا" في فيلم "الأسد الملك"، مثلما...
علاء المفرجي

الواردات غير النفطية… درعنا الستراتيجي

ثامر الهيمص نضع ايدينا على قلوبنا يوميا خوف يصل لحد الهلع، نتيجة مراقبتنا الدؤوبة لبورصة النفط، التي لا يحددها عرض وطلب اعتيادي، ولذلك ومن خلال اوبك بلص نستلم اشعارات السعر للبرميل والكمية المعدة للتصدير....
ثامر الهيمص

بالنُّفوذ.. تغدو قُلامَةُ الظِّفْر عنقاءَ!

رشيد الخيون يعيش أبناء الرّافدين، اللذان بدأ العد التّنازلي لجفافهما، عصرٍاً حالكاً، الجفاف ليس مِن الماء، إنما مِن كلِّ ما تعلق بنعمة الماء، ولهذه النعمة قيل في أهل العِراق: "هم أهل العقول الصّحيحة والشّهوات...
رشيد الخيون
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram