TOP

جريدة المدى > عام > المثقفون.. في بلدان اللجوء "الإنساني"!

المثقفون.. في بلدان اللجوء "الإنساني"!

نشر في: 21 يوليو, 2013: 10:01 م

لا شك في أن المثقفين في البلدان النامية أكثـر وعياً و إدراكاً و أعلى صوتاً في الخطاب الوطني و النضال ضد الاستعمار من بسطاء الناس في هذه البلدان، غير أنهم أسرع منهم أيضاً، لأسباب أمنية أو لاعتبارات خاصة، إلى مغادرة بلدانهم في الأزمات السياسية الحادة و

لا شك في أن المثقفين في البلدان النامية أكثـر وعياً و إدراكاً و أعلى صوتاً في الخطاب الوطني و النضال ضد الاستعمار من بسطاء الناس في هذه البلدان، غير أنهم أسرع منهم أيضاً، لأسباب أمنية أو لاعتبارات خاصة، إلى مغادرة بلدانهم في الأزمات السياسية الحادة و اللجوء بوجهٍ خاص إلى الدول الاستعمارية التي يعرفون جيداً أنها وراء خراب بلدانهم في مختلف مجالات الحياة ، و كأنهم يبتغون بالعيش فيها تعويضا منها لما تعرضوا له و بلدانهم من أذىً و تعسفٍ فادح!

و تلك مفارقة مؤلمة بامتياز و لا يبدو لها حل في المستقبل القريب على صعيد العلاقة بين هؤلاء المثقفين و خياراتهم الأخلاقية التي تتفق و توجهاتهم الفكرية. فقد حبك الاستعمار العالمي الخطة منذ أمدٍ بعيد لإبقاء البلدان المتخلفة على تخلفها، بل و أكثر من ذلك الآن بعد أن سلط عليها من أبنائها، إضافةً لصنيعته الإرهاب، أكثر الفئات تخلفاً، و أنفعها بالتالي لمصالحه الاقتصادية وفقاً لأفكارها المعادية أساساً للتقدم و التفكير الحر و الانفتاح على الحضارة الإنسانية. 
فهكذا لا تكون في هذه البلدان عقول متنورة فاعلة و كفاءات وطنية، لأنها تكون قد هاجرت، أو هُجِّرت بشكلٍ أو بآخر، إلى الولايات المتحدة و البلدان الأوروبية بوجه خاص لتستفيد منها هي، و لا تقوم في هذه البلدان صناعة أو زراعة متطورة، بعد خلوّها من الخبرات و تدمير بناها التحتية الضرورية للتقدم، و لا يقف أحد فيها بوجه المخططات الإمبريالية التخريبية، لأن الطريق سالك أمامها بفعل حاجة الناس إلى المنتجات الاقتصادية المستوردة بعد " خراب البصرة "، و انتشار الفساد و السلبية و التبعية للأجنبي في مختلف مفاصل الدولة و الحياة الاجتماعية. 
و هو أمر مهّدت له دول الاستعمار العالمي ستراتيجياً و تكتيكياً على مدى زمنٍ طويل، وفقاً لمراحل مختلفة ــ بدءاً بالاحتلال المباشر، ثم الاستقلال الزائف للبلدان المستعمَرة و تسليط الأشرار العملاء من أبنائها على حكمها بواجهة وطنية لكن بطريقة سيئة تجعل الناس يكرهون ما هو وطني و يرحبون بعودة الاستعمار، الذي يعود بالفعل لكن هذه المرة بانقلابات عسكرية وطنية و " مجلس قيادة ثورة " و تصفيات دموية ليس فيها احترام لأية " حقوق إنسان، أو ديمقراطية، أو حريات "، كالتي يُعرَف الغرب بها ظاهرياً و تحلم بها شعوب البلدان النامية. و هنا، و بعد أن يكون الاستعمار العالمي قد استنفد حاجته من هذه الدكتاتوريات، يأتي الدور في الخطة لمشاريع أوسع مثل الشرق الأوسط الكبير، ثم ثورات " الربيع العربي "، التي " ستأتي " للناس بحقوق الإنسان، و الديمقراطية، و الحريات المزعومة، مع الفوضى الخلاقة، و اللحى الكثّة، و التناحر الطائفي!
بينما يتفرج من بعيد، من لندن، و باريس، و نيويورك و غيرها من مدن الغرب السعيد بذلك كله، مثقفو هذه البلدان المحترقة، على خراب أوطانهم من خلال شاشات الفضائيات و الإنترنت، و هم يحتسون كؤوس السهرة، و يتوجعون " كثيراً " لما يجري، شاتمين فلاناً مرةً و علاناً مرةً أخرى لأنه غبي أو متخلف أو جاهل ليس له خبرة أو شهادة أو ثقافة كالتي لديهم، متجاهلين بالطبع أن الذي فعل و يفعل ذلك ببلدانهم هو البلد " الديمقراطي الحر " الذي يعيشون لاجئين فيه ويقدمون له ثمناً لذلك ما لديهم من ثقافة أو خبرة، إن وُجدت! 
و تلك مفارقة لا بد أن هناك مثقفين غير سعداء بها بالتأكيد، فما هم فيها إلا ضحايا تماماً كهؤلاء المكتوين بنار التخلف، و الهجمات الإرهابية، و سوء الأوضاع المعيشية، و الخوف الطائفي، و إن طاب العيش هناك، و لطُفَ الجو، و غنّت النفس الأمّارة بالحنين إلى مثل ذلك! 
و يجدر بالذكر أخيراً أن من بين هؤلاء المثقفين الذين يعيشون في دول الغرب، التي يا ما كتبوا عن إمبرياليتها، و جرائمها، و عدوانها على الشعوب، سواء من خلال نتاجهم الأدبي، أو مقالاتهم الصحفية، هناك كتّاب كبار مثل الروائية التشيلية الشهيرة إيزابيل أليندي التي قُتل عمها رئيس تشيلي في انقلاب 1973 و تقيم منذ سنين في الولايات المتحدة الأميركية، التي دبّرت ذلك الانقلاب المشؤوم، و الكاتب النيجيري وول سوينكا الذي سُجن في نيجيريا أيام الحرب الأهلية صنيعة المخابرات الأميركية " وكان له دور نشط في تاريخ نيجيريا السياسي و النضال من أجل الاستقلال عن بريطانيا العظمى ... " و عاش في بريطانيا هذه و يعيش اليوم في الولايات المتحدة الأميركية، و الكاتب المغربي الطاهر بن جلون الذي يقيم في فرنسا، المستعمِرة الدموية السابقة لبلده، و يصرّ مع هذا " على أنه كاتب فرنسي، وليس كاتبا مغربياً رغم أن الفرنسيين لا يعدون أدبه كذلك " كما جاء في الموسوعة الحرة! 
و هناك مئات بل آلاف من المثقفين أمثال هؤلاء، و منهم عراقيون، و لا فخر، في مختلف بلدان اللجوء " الإنساني " هذه، يعيشون مفارقة أخلاقية غريبة : مثقفون يكافحون الاستعمار و أذنابه في بلدانهم و يتعرضون للتنكيل و القمع الوحشي ثم يهربون ليعيشوا في نفس دول الاستعمار، التي بعثرتهم في أصقاع الدنيا، و قتلت أبناء جلدتهم و خرّبت، و لا تزال تخرّب، بلدانهم الأصلية!

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

القصة الكاملة لـ"العفو العام" من تعريف الإرهابي إلى "تبييض السجون"

الأزمة المالية في كردستان تؤدي إلى تراجع النشاطات الثقافية والفنية

شركات نفط تباشر بالمرحلة الثانية من مشروع تطوير حقل غرب القرنة

سيرك جواد الأسدي تطرح قضايا ساخنة في مسقط

العمود الثامن: بين الخالد والشهرستاني

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

موسيقى الاحد: الدرّ النقيّ في الفنّ الموسيقي

في مديح الكُتب المملة

جنون الحب في هوليوود مارلين مونرو وآرثر ميلر أسرار الحب والصراع

هاتف الجنابي: لا أميل إلى النصوص الطلسمية والمنمقة المصطنعة الفارغة

بيت القصب

مقالات ذات صلة

علم القصة: الذكاء السردي
عام

علم القصة: الذكاء السردي

آنغوس فليتشرترجمة: لطفيّة الدليميالقسم الاولالقصّة Storyالقصّة وسيلةٌ لمناقلة الافكار وليس لإنتاجها. نعم بالتأكيد، للقصّة إستطاعةٌ على إختراع البُرهات الفنتازية (الغرائبية)، غير أنّ هذه الاستطاعة لا تمنحها القدرة على تخليق ذكاء حقيقي. الذكاء الحقيقي موسومٌ...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram