أحياناً أقرأ لشاعر فأجده يتطابق معي بصورة مثيرة. أقرأه ثانية وثالثة فأشعر، وأنا أقرأ قصيدته، أني أُسهمُ في كتابتها معه. وقد تذهب المقاربة إلى مدى مُدهش حد سنة الميلاد، ومسار الحياة، والمواقف من الشعر والحياة.
الشاعر البولندي آدم زاغايفسكي أبرز هؤلاء. فهو من مواليد 1945، سنة ميلادي، وينتسب لجيل ستيني بالغ النشاط، كما أنتسب. كان يطمح في تلك السنوات إلى استيعاب مبادئ اليسار من زاوية وجودية، لا سياسية، في مرحلة كانت حمى السياسة قد غطت الأفق. ثم اكتشف أن السياسة ليست من عناصر شخصه وموهبته. تماماً كما طمحت واكتشفت. ولاذ في قصيدته، كما لذتُ، بالمسحة الغنائية والشخصية. وكما كنت شاعر ثقافة وزاوية نظر، رأيته كائناً كذلك. وفي كلماته التي يقول فيها: "إن سعي الشاعر للتضامن في قصيدته مع المضطهدين فقط يحد من قدراته الإبداعية. في عزلة العقل وحدها يقدر الشاعر أن يقرب غزارة الحياة والوجود." أرى ظلال كلماتي. وخبرَ كما خبرتُ غربتيْ المنفى: الفيزيائية والميتافيزيقية.
في سبعينات القرن العشرين كان منشقاً في عز النظام الشمولي الذي حكم بولندا. وبالرغم من أنه لم يتعرض للسجن إلا ان مغادرة بلده الى فرنسا، ثم الى أميركا، قبل فرض الأحكام العرفية في عام1981، كانت تلح عليه إلحاحاً لا رجعة فيه. على أن عائلته كانت قد أجبرت على مغادرة مكانها في مدينة "لفوف" في فترة قصيرة بعد مولده عام 1945. هذا النفي والتجوال الذي لا يخلو من هاجس تشرّد كان قد تسرب إلى شعره جميعاً.
أتأمل هيمنة الحزب الواحد في العراق، ومقاومتها بالخمرة والصمت. أتأمل التشبث بآمال المغادرة إلى الغرب، لأن ظلال صدام حسين كانت تمتد إلى أبعد مدى من العالم العربي. أتأمل اجتثاث عروق العائلة والمحلة برمتها من تربتها في "كرادة مريم"، وتهجيرها إلى مناطق نائية في بغداد. أتأمل مشاعر المنفي، وخطوات الجوال، وهواجس المشرد، وكيف أن كل هذا قد تسرّب إلى الشعر الذي أكتبه حتى هذه اللحظة.
حتى في الموقف النقدي من حداثة معاصريه، وما بعد حداثتهم، أجدنا على مقربة حدّ التماس. فإذا ارتبتُ من الشعر الفرنسي، الذي يبدو لي أقرب إلى شعر اللغة، ومن تأثيراته المفجعة على شعر معاصرينا العرب، وفي لبنان والمغرب العربي خاصة، أجد زاغايفسكي يقول إن تقاليد الشعر الفرنسي اختارت أضيق الطرق. هذه الطرق تتمثل مقوماً واحداً من مقومات الحداثة الشعرية، المتمثل في شعر مالارميه. شعراء عدة اقتفوا هذه الطريق، التي حظرت على القصيدة التعامل مع الواقع الحي. إن زاوية النظر هذه عامة بالتأكيد، ولكنها تمثل على كل حال التيار الرئيسي في الشعر الفرنسي اليوم. الشعراء يركزون على فعل الكتابة ذاته بصورة جد ضيقة وغير مثمرة.
استعدت هذه الصحبة الشعرية المُلهمة وأنا أقرأ قصيدة منتخبة من زاغايفسكي، في ملحق التايمز الأدبي، بعنوان "في المدن الغريبة":
في المدن الغريبة ثمة فرحٌ مجهول،
نعيم بارد للنظرة الجديدة العجلى.
مبان بطلاء أصفر، حيث الشمس
تتسلق مثل عنكبوت فطِن،
تُبنى، ولكن ليس لي. ولا مبنى البلدية،
ولا الميناء، ولا السجن، ولا دار القضاء.
بمدّه المالح يفيض البحر عبر المدينة،
يُغرق أقبية المؤن والشرفات.
في السوق، إهرامات التفاح
تنتصب لظهيرة أبدية
حتى المعاناة لا تنتسب لي حقاً،
أبلهٌ محلي يتمتم بلسان أعجم،
ويأس فتاة وحيدة في مقهى
يشبه رقعة كانفس
في متحف رديء الإضاءة.