لأسباب كثيرة يمكنني الزعم بأن العلمانية في العراق ليست ضعيفة. لقد تعرضت كطريقة حياة ونهج تفكير، الى ضربات قاسية طيلة نصف قرن، لا من الاتجاهات الدينية المتشددة فهذه جاءت متأخرة، بل من السياسات الحمقاء التي لم تكن متدينة، لكنها لم تكن متمدنة أيضا، أي أنها شيء غير حضاري لا علماني ولا إسلامي. وهذه الرؤية القائمة على الغرائز، قامت بتخريب التمدن العراقي، وأذاقته الهزائم والويلات، فخربت تقاليد العلمانيين والجماعات المؤمنة على حد سواء.
لكن العلمانية العراقية التي تعرضت لضربات قوية، لا تزال قائمة ومؤثرة ولعلنا نحتاج إلى إعادة النظر في قول القائل، ان "التيار المدني غير قادر على خوض حوار وطني بشأن طريقته في الحياة، لأنه تيار مبعثر ولا احد يخشى منه، ولاحد يستعد لخوض حوار جاد معه، وكل إسلامي يتحدث بطريقة مهذبة مع علمانيي العراق، فهو يجامل وحسب ويحاول ان يبدو جنتلمانا مع فريق مهزوم".
ان شعور بعض العلمانيين بهذا الانهزام، يمنعهم من إقامة علاقة طبيعية مع أصناف النخب وأنواع الجمهور الأخرى، ويكرس لديهم شعورا بأنهم "غرباء" أو منبوذون اجتماعيا، ويعيشون في "معازل"، ويتحولون إلى طرف سلبي يعترض دون خطط، ودون ان يحدد ما هي الخطوة القادمة.وسبب هذا الشعور هو الانشغال بتوازن تفرزه المراحل الانتقالية المليئة بالانهيار الروحي للشعوب، والإحساس العميق بالقلق الذي ينتاب الأمة ويدفعها للبحث عن كهف آمن في القبيلة او الطائفة. ان الأمة في لحظات كهذه تبحث عن "مخبأ تقليدي" يحميها لحظة اختفاء الدولة. وهذه لحظة خسارة لكل الاتجاهات الحديثة التي لا تنتعش إلا بوجود نظام مستقر ضامن للحق.لكن قيم الحداثة في عالم معولم تتسع شبكات مصالحه، ليست قيم الأقلية، بل قيم الأكثرية الغالبة على هذا الكوكب. المتشددون هم الأقلية في العالم، وشعورهم بأقليتهم هو الذي يدفعهم الى التشدد الديني، والى الانتحار أحيانا. والمتشددون هم الغرباء حتى داخل عوائلهم، اذ لم يعد في وسع أي نموذج منغلق ان يحاصر عقول أهل الدار ويغلق النوافذ ويوقف طرح الأسئلة. وشعور المتشددين بهذه "الغربة الحضارية" هو الذي دفع قائمة طويلة من "الأسماء الذكية" داخل التيار الديني في العالم، إلى الانخراط في عملية مراجعة للفهم الراديكالي لمعنى الدين ووظيفته وحرامه وحلاله، وهي مراجعة أدت الى ظهور تيار فقهي يلغي الفتاوى التي تضع حواجز مع الآخر الديني والايديولوجي، ويتحدث بمنطق التعايش والتسامح.
ويركب الغرور بعض الإسلاميين في لحظات الانتصار، ويتحول هذا الغرور الى اندفاعات وأخطاء رهيبة، لكن هذا مجرد "عرس مخبول مؤقت" لان اي انتصار للتشدد في قرن المعلوماتية والانفتاح، ليس سوى سبب للمزيد من الرغبة في التحرر.
ان شعور الأذكياء في التيارات الدينية بضرورة المراجعة، وضرورة تقديم تأويل مستحدث للمعاني الدينية، لا ينطوي على مجاملة لتيار علماني قوي او ضعيف، بل هو استئناف لشعور المسلمين قبل مئة عام، بأن الدنيا تتغير من حولهم وأن الثبات على سيرة الأولين بنحو حرفي حنبلي، سيضيع المعنى الأخلاقي العظيم للدين ويحوله الى حالة عدائية قادمة من تاريخ محاصر ومنتهي الصلاحية.
ستضطر التيارات الدينية في العالم الإسلامي الى تكييف نفسها مع المتغيرات المتسارعة في عصر السباق والتنافس والانهيارات والإنجازات المتلاحقة. وفي العراق، يوفر التحسن النسبي في دخل الفرد، والانفتاح السياسي، والسجال الذي لا ينقطع بين الجميع، وظهور نتائج التشدد المريعة أمنيا واجتماعيا، الى لحظة تجعل المتزمتين يطرحون آلاف الأسئلة على انفسهم، محاولين تخفيف اغترابهم على سطح هذا الكوكب.
وكذلك فإن نخبة الحركات الدينية ستقتنع تدريجيا بعقلنة سياساتها، والتأقلم مع شروط تحقيق المكاسب والمصالح الحقيقية لجمهورها، وذلك يتطلب عملا متواصلا مع التيار المدني الذي لن يبقى على طول الخط خارج سباق الانتخابات.
وفي النهاية لن يختفي الدين وسيظل هناك ساسة يحاولون لعب دور الممثل السياسي للجمهور المؤمن، لكن منطق التاريخ لن يكون رحيما مع التشدد. وستكون هناك فرصة للتيار المدني لكي يتعرفوا باهتمام على الأجنحة المعتدلة داخل كل التيارات الدينية، ويكتشفوا مساحات التفاهم الممكنة.
الإسلاميون ليسوا ضعفاء، ولكن العلمانيين ليسوا ضعفاء أيضا، وهم يمتلكون إمكانات التحول إلى طرف شريك في التسويات الاجتماعية التي تنشأ على أساسها الأمم.
العلمانية ليست ضعيفة
[post-views]
نشر في: 21 يوليو, 2013: 10:01 م