TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > قرية عبدالرسول وأسئلة برنارد لويس

قرية عبدالرسول وأسئلة برنارد لويس

نشر في: 22 يوليو, 2013: 10:01 م

يمكن بالطبع ان نختلف مع كثير من النتائج التي يطرحها كتاب "اين يكمن الخطأ" للمؤرخ برنارد لويس، ابرز كاتب مسموع في الغرب في حقل الاسلام. لكنه ينقل معلومة بالغة الاهمية عن مؤرخ مسلم اسمه عبد الحق عدنان، نشر اطروحة عام ١٩٣٩، تذكر ان رجال الدين المسلمين في دولة الخلافة لم يسمحوا للمثقفين بترجمة اي كتاب عن اللغات الاوربية وخسروا بذلك استيعاب تحولات العلوم لفترة ٤ قرون. المنع الاسلامي من الترجمة استمر من القرن ١٥ حتى نهايات القرن ١٨، باستثناء كتاب واحد سمح بترجمته عام ١٦٥٥. ولم يكن صدور الفتوى الوحيدة بالسماح ممكنا، لولا ذكاء المترجم واحتياله. لقد كان الكتاب الاوربي يتحدث عن علاج مرض "الزهري" الذي انتقل لبلاد المسلمين من الغرب. والمترجم الفطن قال لدار الفتوى، ان المرض الافرنجي لا يمكن علاجه الا بدواء افرنجي يشرحه الكتاب "الكافر"، فسمح بنقله من اللاتينية الى التركية. لكنه ظل الكتاب الوحيد الذي جرى تحليل ترجمته خلال ٤٠٠ سنة، ولم تبدأ حركة الترجمة الفعلية لمعارف الاوربيين الا نهاية القرن الثامن عشر، والعهدة على المؤلف المسلم عبد الحق عدنان.
ويكفي لنفهم تأخر حركة الترجمة لدينا، بمجرد مقارنة تاريخية مع السير اسحق نيوتن الذي اصدر كتابه الاعظم عن "المبادئ الفلسفية للرياضيات" وتحدث عن قانون الجذب العام الذي قاد لدخولنا عصر المحركات، بينما لم نكن في تلك اللحظة نمتلك سماحا الا بترجمة كتيب بسيط عن "مرض افرنجي" راح يفتك بأجدادنا.
لكن تركيا التي شهدت اصلاحات متأخرة سرعان ما بدأت مسار تحديث وشهدت نهضة ثقافية كبرى فلم يقتصر الامر على ترجمة العلوم. فقبل سنتين اقتنيت كتابا مطبوعا في اسطنبول عام ١٩٢٣ وبالحرف العربي، في الشهور الاخيرة من عهد آخر خلفاء العثمانيين، تحت عنوان "آداب معاشرت وتشريفات" يتولى نقل ما قرأه المؤلف في المصادر الفرنسية عن فنون الاتكيت وآداب المائدة وحتى رقصة الفالس، بعدها بدا اننا شفينا من "الزهري الثقافي" وانفتحنا على ما يدور حولنا في العالم، مع امل ان تنتقل صراعاتنا لتمس متطلبات التنافس الحقيقي مع القوى المهيمنة في العلوم والتصنيع والاقتصاد.
الا ان السيد عبدالرسول وهو مدير بلدية افغاني لقرية اسمها "صالح تحت الماء" غرب البلاد، يقدم لنا دليلا اضافيا على رجوع رهيب للعقدة القديمة التي اخرت اندماجنا بالعالم ٤ قرون. فقد لقي الرجل حتفه اثناء محاولته اغلاق متاجر في القرية تبيع "الماكياج النسائي". فقد اخذه حظه العاثر نحو بائع "عصبي جدا" صادف انه يحمل مسدسا، وبمجرد سماع امر الاغلاق اطلق البائع ثلاث رصاصات استقرت في رأس مدير البلدية، وجاءت بأجله.
ويتعلق الجزء الاكثر حزنا من الحكاية، بكون عبد الرسول مسؤولا معتدلا، ولم يأت الى الباعة ليجبرهم على قناعاته، وإنما كان ينوي حمايتهم من مجموعة رجال دين شباب اصدروا فتوى بحرمة "الماكياج" وقرروا احراق المحلات مع حشد من مؤيديهم. لقد حاول مدير البلدية ان ينقذ باعة مواد التجميل من القتل، فقتله بائع عصبي حسب تقرير نقلته صحف ايران. وذلك بعد مائة عام تقريبا على ترجمة الاتراك كتاب "آداب معاشرت وتشريفات".
ان ملايين الطلقات النارية وأصابع الديناميت تتفجر اليوم في نزاعات بين احفاد المترجم المسلم لكتاب مرض الزهري، خلال حروبنا التي تبدأ من ادوات التجميل في قرية "صالح تحت الماء" الافغانية، ولا تنتهي عند سجن ابي غريب الذي يسجل فشل دولتنا في الاحتفاظ بأخطر المجرمين.. كما لا تتوقف على تخوم حلب والضاحية الجنوبية وسيناء مصر، وسط نزاع على التاريخ وتأويل الدين فقها، ولاهوتا، واحترابا بين "كل الفرق الناجية". بينما ينشغل احفاد اسحق نيوتن بإنتاج علوم ومعارف ومخترعات، لم نعد قادرين عمليا حتى على استكمال ترجمتها.
لقد اقتنع المسلمون بصعوبة، قبل قرن ونصف بالدخول الى العصر، وتواصلوا مع العقل العلمي الحديث. وهاهم يقتنعون اليوم، ولكن بسهولة، بالخروج من العصر والانتكاس الى مشاكل بدائية مريعة. ان كتاب برنارد لويس حول اخر خمسة قرون من تاريخ المسلمين، يحمل عنوان "أين الخطأ"، ولا ادري كم من الوقت سيحتاج اهالي قرية "صالح تحت الماء" للاجابة على هذا السؤال الغربي، حول المرض "الشرقي".

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 2

  1. متاضل العراقي

    الاخ سرمد الأدهى من ذلك يأتيك الملتحي ليزيدك غيضا ليتبجح بأن الغرب أستفادوا من كتب العلماء المسلمين طيب لماذا لم يستفد منها المسلمون واذا كانت كذلك لماذا لم يطوروا انفسهم (طبعا لا يعرف هذا الملتحي الجواب )ان الفيتو الذي يصدر من رجال الدين هو الذي اعاق

  2. yass albasry

    ربما برنارد لويس لم يوفق بالاجابة ولا بفهم المشكله ..السبب عقولنا لازالت عند منعرج اللوى بينما اجسادنا تسير في القرن الواحد والعشرين

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الداخلية وقرارات قرقوشية !!

العمودالثامن: في محبة فيروز

الفساد ظاهرة طبيعية أم بسبب أزمة منظومة الحكم؟

مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض

العمودالثامن: تسريبات حلال .. تسريبات حرام !!

العمودالثامن: تسريبات حلال .. تسريبات حرام !!

 علي حسين لا احد في بلاد الرافدين يعرف لماذا تُصرف اموال طائلة على جيوش الكترونية هدفها الأول والأخير اشعال الحرائق .. ولا أحد بالتأكيد يعرف متى تنتهي حقبة اللاعبين على الحبال في فضاء...
علي حسين

باليت المدى: جوهرة بلفدير

 ستار كاووش رغمَ أن تذاكر الدخول الى متحف بلفدير قد نفدت لهذا اليوم، لكن مازال هناك صف طويل جداً وقف فيه الناس منتظرين شراء التذاكر، وبعد أن إستفسرتُ عن ذلك، عرفتُ بأن هؤلاء...
ستار كاووش

التعداد السكاني العام في العراق: تعزيز الوعي والتذكير بالمسؤولية الاجتماعية

عبد المجيد صلاح داود التعداد السكاني مسؤولية اجتماعية ينبغي إبداء الاهتمام به وتشجيع كافة المؤسسات الاجتماعية للإسهام في إنجاح هذا المشروع المهم, إذ لا تنمية من دون تعداد سكاني؛يُقبل العراق بعد ايام قليلة على...
عبد المجيد صلاح داود

العلاقات الدولية بين العراق والاتحاد الأوروبي مابين (2003-2025)

بيير جان لويزارد* ترجمة: عدوية الهلالي بعد ثمان سنوات من الحرب ضد جمهورية إيران الإسلامية (1980-1988)، وجد العراق نفسه مفلساً مالياً ومثقلاً بالديون لأجيال عديدة.وكان هناك آنذاك تقارب بين طموحات الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي....
بيير جان لويزارد
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram