حسبما توصل إليه الناقد الألماني راينارد بابس في بحثه عن النصوص الضائعة لكافكا، كانت شركة التأمين التي عمل فيها صاحب "أميركا" في أوائل سنة 1913، في أمسّ الحاجة لفن "الدكتور" كافكا في إملاء صيغة التقارير الخاصة بها. بالنسبة لمديره السيد روبيرت مارشنير ورئيس القسم الذي كان يشتغل فيه، السيد إيغون فولة، كان عليه أن يكتب "تلخيصاً للإنجازات التي قامت بها شركة التأمين حتى الآن"، وخاصة تلك الإنجازات المتعلقة بمجال "تأمين حوادث العمال" والتي ستُقدم نتائجها إلى "المؤتمر العالمي الثاني لوقاية الحوادث والإنقاذ". هذا المؤتمر الكبير الذي قرر حضوره 1400 ممثل عن شركات تأمين مختلفة لكل "الدول الحضارية"، كان من المقرر أن ينعقد من 8 حتى 13 سبتمبر 1913، في فيينا.
ولأن كافكا سبق له وأن استفاد من خبرته في استخدام الإجراءات الوقائية لتفادي الحوادث، فقد كان الرجل الأفضل، المؤهل لتنفيذ ذلك الواجب. كـ "كاتب بالظل" يعمل لوكالة مختصة بكتابة الخطابات منذ نهاية القرن التاسع عشر، لم يكن إذن الشخص الذي يجهز المخططات والاقتراحات وحسب، إنما كان يتحمل مسؤولية إلقاء المحاضرات بصورة رئيسية التي كلفه بها مديرو الشركة. بالفعل: "نشاط كاتب ظل، شبح في مكتب"، كما كتب في 5 أبريل إلى خطيبته اللاحقة "فيلسيا باور". هذا "العمل الشبحي" (كما أطلق عليه)، استمر زمناً طويلاً. حتى 28 أبريل، انغمر كافكا "وسط الكتب والأوراق"، "برأس فارغة"، (كما وصف ذلك في رسائله لفيلسيا) لكي يكتب المحاضرة المطلوبة. السرعة كانت ضرورية، لأن في 1 مايو/أيار كان عليه تقديم كل المحاضرات. في تلك اللحظة لم يملك روبيرت مارشنير وإيغون فولة إلا إمكانيات قليلة، لكي يشرعا ببعض التصليحات.
كافكا الذي كتب المحاضرتين لرئيسيه، حصل مقابل ذلك، على مكافأة السماح له بالسفر مع وفد براغ إلى فيينا، ليجلس هناك، في المؤتمر، مكتفياً بدور "الكاتب الشبح"؛ كان بإمكانه سماع محاضراته "مقالاته " ذاتها، من فم مديريه. رغم ذلك لم يتوصل الرجل الجالس في الخلف، إلى المحافظة على هدوئه. كان مجبراً، رغم نومه القليل، على وجوده مع "ناس مرعبين"، ومثل "شبح" يجلس إلى الموائد (كما كتب لفيلسيا في 9 سبتمبر 1913). حتى الآن لم يعرف الباحثون موضوع المقالتين بالضبط ولا ظروف نشأتهما. عملا كافكا هذان، اللذان نُشرا تحت اسم مديريه، يمثلان المرحلة العليا في حياة كافكا الوظيفية، وككاتب شركة تأمين.
الدليل القاطع، الذي يؤكد تأليف كافكا لتلك المحاضرتين، كما يؤكد السيد راينارد بابس، يمكن العثور عليه في رسالته غير المنشورة حتى الآن المعنونة: "إلى العم المدريدي"، الفريد لوفي، والتي صدرت في الجزء الثاني من "مراسلات كافكا". الباحث بابس يجد، أن محاضرة المدير "فول"، "تنظيم وقاية الحوادث في النمسا"، التي كتبها كافكا، كانت واحدة من المحاضرات المطبوعة التي وُزعت بشكل خاص في المؤتمر. كانت هناك أيضاً نسخة مطبوعة من مقالة مارشنير. في 12 مارس 1914، رد العام لوفي على رسالة كافكا، يخبره، بأنه قرأ المقالتين باهتمام بالغ. و"لأنهما جاءا من ريشتك، أهنئك بصدق على معلوماتك العميقة، الدقيقة والمقنعة. المرء تغمره قناعة الانطباع، بأن ذلك يُمكن أن يكتبه فقط من يسيطر على الموضوع بصورة تامة وأن يناقش ذلك بلغة واضحة ومغرية بهذه الصورة التي تجبر حتى غير المحترف على قراءتها وفهمها، أمر نادر في مثل هذه التقارير. أن يوقع مديراك المحاضرتين المؤلفتين من قبلك، ليس ذلك أمراً نادراً، إنما على العكس، أنه أمر مألوف وحادث، ويذكرني بتلك الزفرة التي اعترف بها السيد الوزير عند قدومه للبيت لزوجته: "آخ، كم أنا متعب اليوم، هذه الظهيرة وقعت على رسالة طويلة، تشرح الوضع المالي، تحوي على أربعين صفحة".
الرسالة الموجهة من العم لوفي تثبت بوضوح: بأن محاضرتي مارشنير وفولس كتبهما أصلاً كافكا. وأنها لمفارقة بالذات بأن المؤتمر وزع المحاضرتين بأعداد كبيرة، تفوق الألفي نسخة، عدد يفوق عدد حقيقة كل النسخ التي وُزعت من كتب كافكا أيام حياته!!!
أعمال كافكا الأكثر توزيعاً في حياته
[post-views]
نشر في: 23 يوليو, 2013: 10:01 م