نُطلُّ بمعارفنا المتاحة على الدنيا من حولنا فنجد اننا كأفراد لا نختلف كثيرا عن بقية الآدميين في العالم المتمدن، إذا لم يتفوق البعض منا على كثيرين هناك، وما هنّأتهم الطبيعة البشرية به لم تبخل علينا بمثله هنا، وسوى الفارق في النظام الاجتماعي السياسي المتطور لديهم والذي جعل منهم متفوقين وصناع معجزات في الفكر والعلم والثقافة، لا نجد سببا يجعل منا هامشيين، غير قادرين على الوقوف والتحدي ومن ثم القدرة على البناء وصنع التحولات.
يحدثني طبيب في امراض الحساسية والربو عن تفوقه المفرط في الكيمياء والرياضيات حين كان طالبا في مرحلة الاعدادية وعن نصيحة أستاذه الهندي بمغادرة العراق حين كان طالبا في الجامعة، منتصف الثمانينات لعلمه (الاستاذ) بأن العراق بلاد تتفنن في هلاك المواهب وتبديد الطاقات، ومثله قرأنا وسمعنا قصصا كثيرة كلها تصب في عدم رعاية النظام السياسي للمواهب والقدرات البشرية الموهوبة لكل الخلائق دون استثناء، بل ان الدراسة التي أعدتها إحدى المؤسسات العالمية تحدثت عن نسبة كبيرة من الذكاء عند العراقيين تفوق كثيرا التي عند أقرانهم من العرب والشرق أوسطيين، لكن النظام التعليمي وسوء إدارة البلاد بشكل عام يقفان حائلا دون بلوغ القدرات تلك مداها الأبعد.
في متوالية وأد المواهب والقدرات داخل العراق نجد أن العقل العراقي المتقدم عند الطبيب والمهندس والأستاذ الجامعي... أصبح هو الآخر عاجزا عن التمدد الأفقي والتقدم باتجاه إجتراح آلية للتطور والديمومة، حيث أصبح الطبيب مثلا بعد تخرجه وحصوله على الشهادة العليا وافتتاح عيادة له يعمل خارج دائرة البحث والاكتشاف ساعيا بأقصى سرعته تجاه جمع الكثير من المال من أجل بناء البيت الفخم وشراء المزيد من قطع الأراضي والبساتين والسيارات الحديثة ومثله صار المهندس والأستاذ الجامعي وسواهم، وبسبب من هذا السعي نجد إذ اننا لا نعثر بين آلاف الأطاريح والبحوث الجامعية اليوم على ما يدلنا ويؤكد لنا على أننا أمة تبتكر وتبتدع وتكتشف وتخوض غمار التجربة داخل المختبرات والمراكز البحثية.
قد لا تؤشر مغادرة المئات من العقول العراقية إلى الخارج شيئاً ذا بال في عملية التراجع الفكري-العلمي لدينا لأن غالبية النخب لا زالت تعمل في الداخل، لكن النظام السياسي العام والحراك الاجتماعي بشكل خاص أنتج لدينا نخبا مشوهة، فلا المثقف في الغالب، فاعل عضوي بالمعنى الصحيح للكلمة، ولا الطبيب كما يجب أن يكون عليه شرف المهنة وكذلك الحال بالنسبة للمهندس والمحامي والتاجر ... الخ وبمعنى آخر هناك عملية هدم ومتوالية تخريب طالت نخبنا الكبرى، أفقدتنا معها إمكانية التصور بعراق جديد تفكر وتجتهد فيه طبقته الأولى بإيجاد البدائل العلمية في عملية البناء والتحولات الكلية، وقد نجد العذر لهؤلاء لكننا لا نجد العذر للنظام السياسي الذي أجبرهم على سلوكهم مسلك العامة في التنافس والتفاخر بجمع المال، بغض النظر عن القيم العليا التي منها الجانب الانساني عند الطبيب والجمالي عند المهندس والحضاري–الاخلاقي عند التاجر وغيرهم.
النظام السياسي وارث غباء الحقب الحقيرة في السياسة العراقية، نظامنا الحالي لم يتخلص من غبائه حين جعل من وجوده على هرم السلطة غاية في ديمومة حزبه، طائفته، بل وحتى أسماء مؤسسيه وسرابيل طواطمه البليدة، عامدا على هدم كل ما له علاقة بنهوض البلاد وقيامتها الحقيقية غير متأس بما تفعله الأنظمة في العالم المتمدن. النظام السياسي العالمي اليوم نظام عابر للأحزاب والأديان والطوائف والأعراق. فيما نظامنا بائس متخلف رازح تحت نير كل ما هو غبي لا يفكر ساسته أبعد من إدامة تقديم القدم اليسار، على اليمين عند دخول دورة المياه في المسجد.
النظام السياسي-الديني-الاجتماعي عامل وبجدية من حيث يعلم أو لا يعلم، على امتهان العقل العلمي –الفكري والتقليل من شأن النخبة، وهناك محاولات جادة لطمر الجهد المعرفي من خلال تغليب أفكار الغيب والأسطورة على العقل الجدلي الحر، وحين تحاجج احدهم لا يملك إلا أن يدلك على المقارنة بين عبادة العلماء الهندوس والسيخ والبوذيين للأوثان والحيوانات والحشرات، بذريعة ان المعتقد شيء والعلم شيء آخر، دون ان يفكر بان العلماء هناك بلغوا بشعوبهم شأنا ورفعة لم نبلغها نحن، طوروا بلادهم وأنقذوا إنسانهم، بل وصعدوا به مراكب الفضاء، مقابل معاينتنا لصور الزيف والتردي والانحطاط التي يحياها مجتمعنا اليوم.
في ذمّ نظامنا السياسي
[post-views]
نشر في: 23 يوليو, 2013: 10:01 م
يحدث الآن
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...