عبدالقادر البراك كان المرحوم الملا عبود الكرخي امير الشعر الشعبي في العراق الحديث بلا منازع، لا لغزارة ما انتج من شعر شعبي طريف ورائع تمثل في الدواوين الثلاثة المطبوعة والنافدة من الاسواق، وفي العديد من الدفاتر لدى احفاده فما تنقاد الامارة لشاعر بغزارة ما انتج بل بكثرة ما احسن فيه التصوير والتعبير والتأثير من شعر صادق مستمد من حياته الواقعية الحافلة.
وظل خلال خمسة عقود يتحف قراء صحيفة (الكرخ) و(الكرخي) و(الملا) وغيرها بأبدع الشعر واطرفه في الشكل والمحتوى والهدف وكانت مادة شعره مستمدة من حياته التي حفلت بكثير من الاعمال والتي تزامنت مع الحكم العثماني والاحتلال البريطاني ومن ثم الحكم الملكي فقد مارس شتى الاعمال فوقف على كثير من التجارب واصطدم بكثير من الوقائع سواء في قيامه بالاشراف على قوافل نقل الركاب بين بغداد والاقطار العربية او في الزراعة، او في ممارسته للمختارية وفي المتاعب التي عاناها في الصحافة وفي الاسفار التي تجشمها لجمع الموارد التي تؤمن استمرار صدور صحفه، وكتب له ان يصطدم بكثير من الاوضاع التي تبعث على النقد سواء من الهنود و(الكركة) الذين كانوا يديرون السكك الحديدية او مع غيرهم ممن يتحكمون بمياه الري وتوزيعها على المحاسيب من المزارعين، او في مرافقته للحركة الوطنية وقادة الرأي والفكر والصحافة وفي اختلاطه بسائر الطبقات حتى لتعتبر محلمته الكونية مرجعا ضخما لاصدار رسالة ماجستير في الحرف والصناعات البغدادية واسرارها او مصطلحاتها مما لم تضمه معاجم اللغة العامية التي صدرت في العراق ولعل ما نظمه من قصائد في وصف مهازل الانتخابات وسوء تطبيق قوانين المطبوعات وماكان يجري في دور اللهو وغيرها مما لم يسبق ان صدر عن غيره وبالسعة والكثرة التي تميز بها حتى لتكاد قصيدته التي شكر فيها وزارة ياسين الهاشمي التي اصدرت قانونا يمنع (عرق هبهب) وتحديدا اسعار العرق الممزوج (بالمستكي) بأقل الاسعار مرحبا باسماء جميع من عرفوا بتعاطي هذه المشروبات بل لتكاد تستوعب قصائده من سباق الخيل والزراعة مالم يسبق ان دونه احد.. ولقد جمع من المادة اللغوية مايصلح الان لتأليف العديد من القواميس ومن المؤسف ان كثيرا من الالفاظ والامثال والكنايات والتعابير البغدادية التي كان يزخر بها شعر الكرخي قد اندثرت او كادت تموت، فلم يعد شباب اليوم يحسنون قراءة شعر الكرخي الذي يجب ان لايضيع لما يؤلف من تاريخ ضخم للمادة التاريخية الشعبية التي لم يفطن اليها المؤرخون.. لقد كان اول من احسن الافادة من تراث الكرخي الباحث المدقق والمحقق الثبت والاديب الذواقة (عبود الشالجي) وفي كتبه عن موسوعة الكنايات العامة البغدادية وغيرها من مؤلفات لم يأخذ الكثير منها طريقه الى الطبع. وما اقوله عن (مادة الكرخي) اللغوية التراثية لا انفرد به بل سبقني اليه المرحومون (الرصافي) و(الزهاوي) و (فهمي المدرس) و(علي الشرقي) و (مصطفى علي) و(رفائيل بطي) من الذين غيبتهم الصفائح والعلامة (محمد بهجة الاثري) من علمائنا الاعلام. تداعت على ذهني هذه الخواطر وانا اتصفح الكتاب الممتع الطريف الذي اصدره صديقنا الباحث الفولكلوري عزيز الحجية عن الامثال والكنايات في شعر الملا (عبود الكرخي) فهو لم يحسن في تقديم هذه الامثال والحكايات فقط بل شرح بعض الفاظها بحيث لايتعذر على الجيل الحالي الذي لايحسن قراءة شعر الكرخي فهم الاغراض والمفارقات الواردة فيها وقد سد فراغا يشعر به المتابعون للتراث العراقي حيث ان دواوين الكرخي قد نفدت من الاسواق وان طبعها يكلف الكثير من الجهد والمال وهو باختياره لنماذج عديدة من شعر الكرخي وشرحه لالفاظها ومعانيها قد اضاف ثروة جديدة للتراث الشعبي العراقي والمأمول ان يكون اقبال القراء على الكتاب مشجعا على اعادة طبعه مشفوعا باضافات كان يكون بين ما ستضمه الطبعة المرجوة الترجمة التي تتولى التعريف بالكرخي بالشكل الذي يقربه الى اذهان ابناء الجيل الذين لايعرفون عنه سوى اسمه وشهرته وبعض المأثور من نكاته واشعاره في حين انه واثاره يستحقون اكثر من ذلك، ولعل اضطلاع الاستاذ الحجية باضافة بعض ما شرح وفسر من شعر الكرخي مشجعا للافاضل من امثاله على الاقتداء به في تناول جوانب اخرى من حياة واثار امير شعراء الشعر الشعبي في العراق الحديث. جريدة البلد اذار 1964
الأمثال والكنايات البغدادية في شعر الملا عبود الكرخي
نشر في: 4 نوفمبر, 2009: 02:48 م