حسين حاتم الكرخي صدق من قال، ان المجالس عنوان عريض لعالم واسع فضفاض، وعليه، فان كتابة عدة صفحات في مطبوع سيار، لاتكفي لتغطية موضوع متعدد الجوانب والابعاد، اصوله العريقة ترجع الى العصر الجاهلي، يوم كان لكل قبيلة ديوان تفصل فيه الدعاوي، وتسوى النزاعات ويلجأ اليه الضيف، والمستجير، وطالب الرأي والمشورة والعلم والادب والمعرفة فهو اذا مدرسة القبيلة ومنتداها ودار قضائها،
يحضره (العوارف) من اهل الحكمة والتجربة والدراية، ورواة السير والغزوات وحفظة الانساب، والمطلعين على اخبار العرب الاولين، كما يحضره شاعر القبيلة الذائد عنها، والناطق باسمها في المواسم والمناسبات، وبخاصة في موسم الحج، اضافة الى الديوان كان المقر الرسمي لرئيس القبيلة. ديوان يستقبل الضيوف *وحين بدأت المدن بالظهور بعد الانتقال من حالة البداوة الى حالة الحضارة بسبب استقرار الناس في ارضهم، وتكاثر اعدادهم، واحترافهم الاعمال الجديدة، غير الغزو والرعي، انتقلت هذه الدواوين معهم الى المدن، فاخذ وجهاؤهم يخصصون واحدة من حجرات بيوتهم بعيدة عن (الحرم) لتكون ديوانا يستقبلون فيه ضيوفهم من الرجال، وما الغرفة (الديوانية) في البيوت البغدادية الا (الديوان) الذي نتكلم عنه، وغالبا ماتكون اوسعها، تفرش بالبسط الصوفية او تصف فيها التخوت الخشبية (ام الرمانة) وقد يستعاض عنها بمصاطب، ودكات اقل ارتفاعا من التخوت تبنى بالاجر، وتفرش بحصران البردي او بـ(اليانات) وهي ضرب من السجاد يتخذ شكلا طوليا. *ان انتشار هذه الدواوين في بغداد وبقية المدن العراقية، له اسبابه العديدة منها فترة الحكم العثماني المظلمة، وما بعدها، فالنوادي والجمعيات وحتى المقاهي كانت قليلة، ووسائل الاعلام كالصحف والمجلات، نادرة، والكتب غير متوفرة، والمتوفر منها يباع باسعار لاقبل للفرد العراقي الفقير بشرائها، كما ان (الراديو) و(التلفزيون) و(السينما) لم تكن موجودة عهدئذ، فأين يتوجه الناس التواقون الى العلم والمعرفة والخبر والحديث والشعر الذي يعكس مشاعرهم ويعبر عن آمالهم وآلامهم؟. يتوجهون –طبعا- الى مظانها، وهي الدواوين، وهناك يلتقون أصدقاءهم وابناء محلتهم يتحدثون اليهم، ويبادلونهم الرأي، ويقضون معهم وقتا ممتعا. مجالس بدل الدواوين *وحين تقدم المجتمع العراقي حضاريا وانتشرت المنتديات والجمعيات والنوادي وتطورت وسائل الاعلام كالصحف والمجلات والاذاعة والتلفزة، وتفتحت امام الجميع كل ابواب العلم والمعرفة اخذت هذه الدواوين تنحسر يوما بعد يوم حتى اصبح عددها في ايامنا هذه لايزيد على عدد اصابع اليدين، وحتى اسمها تحول الى (مجلس) بعد ان كان لعشرات القرون (ديوانا).. ومن مجالسنا القائمة على سبيل المثال لا الحصر: 1-مجلس السيد مكي السيد جاسم (مساء الثلاثاء من كل اسبوع. 2-مجلس الدكتور عبدالمجيد القصاب (صباح الجمعة من كل اسبوع) 3-مجلس السيد محمد جواد الغبان (مساء الاحد من كل اسبوع) 4-مجلس الدكتور عبدالحميد الهلالي (ظهر الجمعة من كل اسبوع) 5-مجلس الدكتور حسين امين (مساء اول يوم اربعاء من كل شهر) 6-مجلس الدكتور زهير عبدالرزاق محيي الدين (مساء الثلاثاء من كل اسبوع) 7-مجلس السيد خيري امين العمري (صباح الجمعة من كل اسبوع) 8-مجلس السيد احمد محمد يحيى (صباح ومساء كل جمعة) 9-مجلس السيد باهر فائق (صباح الاثنين من كل اسبوع) *ولايفوتني ان اذكر ان انتشار المجالس والمنتديات الادبية في بغداد، كان سمة بارزة من سماتها خلال النصف الاول من هذا القرن، وقد ذكر المرحوم ابراهيم الدروبي، في كتابه (البغداديون، اخبارهم ومجالسهم) الصادر عام 1958م (243) مجلسا في بغداد وحدها، وذكر الشيخ يونس ابراهيم السامرائي في كتابه (مجالس بغداد) الصادر عام 1985 م (59) مجلسا، اما الدكتور هاشم الدباغ فقد ذكر في كتابه (الاعظمية والاعظميون) الصادر عام 1984م (27) مجلسا في الاعظمية وحدها. من البيوت الى المقاهي *ولم تقتصر هذه المجالس على البيوت، بل تعدتها الى المقاهي العامة وادارات الصحف ومكاتب المحامين وعيادات الاطباء والنوادي والتجمعات والمساجد وغيرها، فكان مقهى (سبع) المواجه لباب وزارة الدفاع الجانبية ومقهى عارف اغا ومقهى (الزهاوي) ومقهى (عزاوي) ومقهى (فضوة عرب) العريقة ومقهى (المميز) و(البيروتي) على كتف جسر الشهداء في الكرخ، كل هذه المظان وكثير غيرها كانت ادبية عامرة، ضمت الفحول من اعلام الشعر والادب والصحافة والقانون والكرخي وفهمي المدرس وعبدالرحمن البناء ومصطفى علي ونوري ثابت (حبزبوز) وعبد القادر المميز (ابو حمد) وروفائيل بطي) وشفيق سلمان وقاسم العلوي المحامي وخيري الهنداوي الى آخر القائمة العبقة من اعلام الشعر والادب في العراق، كما ان هواة الادب الناشئين كانوا يهرعون اليها للافادة والاستمتاع بمطارحات شيوخها، وطرائفهم وما يستجد من منظومهم وثمرات اقلامهم فهذا يتلو قصيدة وذاك يروي نادرة والاخر يناقش موضوعا وكأنهم على منابر (المربد) او في (سوق عكاظ) فكانت بحق مدارس فيها من الادب والعلم والمعرفة مايعز ان تجده في كتاب. مطارحات ومناظرات *ان الكتابة عن مجالس الادب وما يجري فيها من مطارحات ومناظرات ونوادر ادبية تعتبر –ولاشك- تسجيلا تاريخيا غاية في الاهمية ينبغي ان يستأثر بعناية الكتاب واهتمامهم لان هذا التسجيل سيبقى حيا، تتناقله الاجيال القادمة، جي
بغداد الجد.. بغداد الهزل.. من دفتر (الكرخي) الخاص
نشر في: 4 نوفمبر, 2009: 02:55 م