TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > في مديح الرحيل

في مديح الرحيل

نشر في: 30 يوليو, 2013: 10:01 م

فرانتز كافكا مثله مثل الفيلسوف مانويل كانط، لم تقده خطاه أبعد من مشارف مدينته؛ كفافيس لم ينظر إلى هذه الواقعة كحاجة وكتب "إذا أنت تدمرت في هذا الركن الصغير من العالم فستجدها خراباً أينما حللت"؛ الكاتب الألماني أيشيندورف أرسل جواله المغني، حوذي عربته القوي البيان لوحده عبر الغابات الملتمعة فجراً باتجاه إيطاليا، أما هو نفسه فلم يعبر جبال الألب ولا لمرة واحدة؛ دانتي اكتفى بالتجول في الجحيم ولم يغادر منفاه؛ طرفة بن العبد دار شبه الجزيرة مثل البعير المعبد؛ أرثر رامبو أراح قدميه في الحبشة ومر مروراً عابراً على عدن؛ إيزابيل أبيردهارد جالت الصحراء الكبرى بزي الرجال؛ كاميسو دار حول العالم على سطح سفينة حربية روسية؛ بايرون قطع كل البحر المتوسط؛ كارل الثاني عشر سار راكباً من تركيا حتى شترالسوند خلال أربعة عشرة يوماً؛ بوشكين طاف قرى نفيه؛ دوستويفسكي فرّ من دولة إلى أخرى يلاحقه دائنوه؛ تولستوي هرع إلى موته راكباً عربات الدرجة الثالثة، ليموت في محطة مهجورة في قرية بعيدة في ستابوفو؛ سعدي يوسف اقترح عليّ منذ سنوات الرحيل سوية إلى الهند؛ حلاقّتي ياسمين تحلم منذ سنوات برحلة عبر أفريقيا بواسطة الموتورسايكل، ومن حين إلى آخر يموت بعض عشاق المغامرة في رحلات فوق القمم الجبلية الثلجية، أو وهم على سطح بالون، كما حدث في تركيا قبل شهرين، أو وهم في قطار كما حدث في إسبانيا قبل ايام!
باختصار، ليس هناك قانون أو لوح مكتوب، ولا كتالوجات السفر المغرية التي نستعلم من خلالها "أين يجب على المرء الذهاب الآن" لها مفعول إلزامي. لأن السفر هو رغبة تنبع من القلب، فالقلب حر. ومثلما هو القلب أفق لامتناهي، هو العالم أيضاً. مثلما أفق العالم لامتناهي هكذا هو السفر: هذا اللاتناهي يقف بمواجهة كل شخص ليجربه، حتى لو "سافر" من كلية الآداب في بغداد وحتى ساحة الأندلس، مقر اتحاد الأدباء، نعم قطع ذلك الطريق سيراً على الأقدام ربما يُشعرنا بالراحة في هذه الرحلة أكثر من رحلة جوية حول الكرة الأرضية، كما فعلت مرات عديدة في بعض أيام السبعينات الجميلة!
وأيضاً ليس من المهم أن يكون مكان النوم معسكراً ليلياً، أو غرفة فندق، أو كوخا صغيرا، أو كابينة سفينة، أو خيمة، أو عربة نوم، أو صالة انتظار أو تحت سماء مفتوحة، مثلما هو ليس من المهم أن نسافر في الصباح الباكر أو في ساعة متأخرة، في الصيف أو في الشتاء، بسيارة مرسيدس أو بسيارة فولكسفاغن، بقطار أو بقارب أو بواسطة دراجة أو على ظهر جمل، لان السفر ليس هو أن يملك المرء حساباً في البنك وليس الأمر هو معدل ساعات السرعة، إنما هو الاستعداد التام الواعي للتسليم لمسار القلب. الحجاج والجوالون هم أكثر الرحالة حقيقية من أولئك الذين يحملون حقائب كبيرة الحجم في القطارات السريعة.
لا تحتاج أية رحلة لهدف أو سبب، لأن كل رحلة تكاد أن تكون هي حجّة بنفسها: من الممكن أن نعني هنا بأننا يجب أن نسافر، لكي نستريح، أو من أجل دراسة المعمار، من أجل التعرف على بشر لم نعرفهم، من أجل الاستجمام، الهروب من حر الصيف، أو للهروب من برد الشتاء، لعمل تخطيطات وأخذ صور معينة، أو للتسوق أو لزيارة بعض الصديقات والأصدقاء. كل ذلك هو لعبة منا للتحجج، ولا تهم درجة جديتها لأنها تظل تشبه حجج الأطفال، بريئة لكنها لا تنطلي علينا أنفسنا وتبدو لنا مضحكة إذا ما فكرنا فيها بعمق؛ لمعرفتنا المسبقة، بأننا نسافر، من أجل إشباع جوع القلب ـ هذا القلب الذي يتفتح والذي يرغب بتأمين تجديد شبابه غير القابل للتحطيم عن طريق معايشة شيء جديد.
يتبع

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: سياسيو الغرف المغلقة

العمود الثامن: مطاردة "حرية التعبير"!!

العمود الثامن: عاد نجم الجبوري .. استبعد نجم الجبوري !!

السردية النيوليبرالية للحكم في العراق

العراق إلى أين ؟؟

العمود الثامن: سياسيو الغرف المغلقة

 علي حسين في السبعينيات سحرنا صوت مطرب ضرير اسمه الشيخ امام يغني قصائد شاعر العامية المصري احمد فؤاد نجم ولازالت هذه الاغاني تشكل جزءا من الذاكرة الوطنية للمثقفين العرب، كما أنها تعد وثيقة...
علي حسين

زيارة البابا لتركيا: مكاسب أردوغان السياسية وفرص العراق الضائعة

سعد سلوم بدأ البابا ليو الرابع عشر أول رحلة خارجية له منذ انتخابه بزيارة تركيا، في خطوة رمزية ودبلوماسية تهدف إلى تعزيز الحوار بين المسلمين والمسيحيين، وتعزيز التعاون مع الطوائف المسيحية المختلفة. جاءت الزيارة...
سعد سلّوم

السردية النيوليبرالية للحكم في العراق

احمد حسن تجربة الحكم في العراق ما بعد عام 2003 صارت تتكشف يوميا مأساة انتقال نموذج مؤسسات الدولة التي كانت تتغذى على فكرة العمومية والتشاركية ومركزية الخدمات إلى كيان سياسي هزيل وضيف يتماهى مع...
احمد حسن

الموسيقى والغناء… ذاكرة الشعوب وصوت تطوّرها

عصام الياسري تُعدّ الموسيقى واحدة من أقدم اللغات التي ابتكرها الإنسان للتعبير عن ذاته وعن الجماعة التي ينتمي إليها. فمنذ فجر التاريخ، كانت الإيقاعات الأولى تصاحب طقوس الحياة: في العمل، في الاحتفالات، في الحروب،...
عصام الياسري
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram