تابعت قضية رئيس وزراء إيطاليا السابق برلسكوني،وأنا أفكر في حالنا، وليس في إيطاليا. أصغيت إلى حديثه الذي دعا فيه أنصاره إلى الهدوء، بعد أن أيدت المحكمة العليا الحكم الصادر بحقه الذي يضعه تحت الإقامة الجبرية،وتوقفت عند خطاب واحد، قال فيه إنه: " يحترم القضاء.. برغم الظلم الذي تعرض له وهو يطلب من الإيطاليين أن يغفروا له هفواته ".
الإيطاليون وبعد سنوات اكتشفوا ولسوء طالعهم أن هناك مجرماً يعيش بينهم، لا يمكن طلب الغفران له وعليه أن يقدم اعتذاره للشعب علناً، وعليه قبل الاعتذار أن يرضخ لحكم المحكمة، لأن رفضه للقانون يضر بمصلحة إيطاليا، ويسيء لسمعتها بين شعوب العالم. المجرم برلسكوني هو رجل يحظى بشعبية كبيرة بين أوساط الناس، لكن خبره الذي تصدر كبرى الصحف وأصبح مادة دسمة للفضائيات جعله منبوذاً من الجميع.
حين تابعت القضية قبل قراءة تفاصيلها تصورت أن الرجل أنفق 23 مليار دولار على الكهرباء، ثم اكتشف في ما بعد أن نائبه ضحك عليه وغشه، أو انه استورد أسلحة فاسدة راح ضحيتها المئات من الأبرياء. وقلت مع نفسي من المؤكد أن برلسكوني ارتكب معصية كبيرة حين أرسل قواته " السواتية " لضرب الناس بالرصاص الحي والعصي، أو انه زوّر شهادة الابتدائية ليحصل على الدكتوراه في الحشمة والفضيلة، وذهب خيالي بعيدا وقلت بالتأكيد إن الرجل سهّل عمليات سرقة النفط، أو انه شريك في صفقة الأسلحة الروسية التي تبين للقاصي والداني أن أموال عمولاتها دفعت على أسلحة " أكسباير "!
ولكن حين قرأت الخبر أدركت أنني تجنيت على مسؤولينا كثيرا حين اتهمتهم بالفساد وسرقة المال العام والانتهازية والتزوير، فهذا السياسي الإيطالي ارتكب جرماً أشد وأبشع من كل ما فعله السيد مشعان الجبوري الذي أعلنها ذات ليلة صريحة وواضحة: أنا وقناتي الفضائية في خدمة قائد الجمع المؤمن عزة الدوري.. إن جريمة السيد برلسكوني هي انه "لم يدفع الضرائب أثناء توليه رئاسة الوزراء"!
هكذا هبت العاصفة، إذ كيف يمكن الوثوق بسياسي تحايل على القانون؟ لكن هذا السياسي لم يخرج على الناس ويقول إن عدد من انتخبوه يفوق عدد الذين اكتشفوا تحايله على دائرة الضرائب، ولم يصرح بأن استقالته تعد انقلاباً على الديمقراطية، ولم يهدد الناس بتظاهرات مليونية ترفع شعار " بالروح بالدم نفديك يا برلسكوني " ولم يقل إن مطالب المحتجين صعبة التنفيذ، ولم يتهم المنددين به بأنهم من أذناب موسوليني ويريدون إعادة الحزب الفاشستي، وإنهم يخططون للانقلاب على العملية السياسية، ولم يذهب إلى أحد رجال الكنيسة يرجوه بأن يصدر فتوى تمنع انتقاده، كما لم يطلب مهلة مئة يوم لتسوية القضية، فقط اكتفى الرجل بأن اعتذر من الإيطاليين، وقرر أن يستأنف الحكم.
لو سألت أي مسؤول عراقي عن رأيه في قضية برلسكوني لسارع على الفور باتهام الزعيم الإيطالي بأنه إما ساذج أو مجنون! أساسا هل هناك مسؤول وسياسي يدفع ضرائب للدولة؟ فالمسؤول في عرفنا هو الذي يأخذ الضرائب من الناس.. وهو الذي يتحكم بمصائرهم، فهو الأمر الناهي.. ونحن والحمد لله نعيش في ظل ساسة يتعاملون معنا باعتبارنا قطيعا، وفي أحسن الأحوال مجموعة من المتآمرين أو المشاغبين بحاجة إلى تأديب على حد قول مولانا أحد المسؤولين: "الشعوب تقاد لا تقود"، هكذا يفهم البعض الديمقراطية.
تخيلوا لو أن مسؤولا عراقيا اُتهم بمخالفته قانون الضرائب، ماذا كان سيفعل؟ حتما سيصف متهميه "بالثلة الفاسقة" وبأنهم يريدون تحويل العراق إلى دولة إباحية، وان هناك مخططاً تقوده خلايا البعث بالتعاون مع إرهابيي القاعدة لتشويه سمعته، ولصرخ بصوت عالٍ انه باقٍ في منصبه إرضاءً للجماهير التي لا تنام إلا وهي تضع صورته تحت الوسادة!
تحصد دول العالم المستقرة اليوم ثمار حلم سياسييها ومسؤوليها بدولة مستقرة اقتصاديا وسياسيا، في المقابل نحصد نحن مع ثمار أحلام المالكي عشر سنوات من الخيبات والأزمات.. ونحقق أرقاما قياسية لا في التنمية والبناء، وإنما في مجال أوسع وأرحب، وهو لائحة الدول الأكثر موتا.. فبعد أن تفوقت علينا الشقيقة سوريا في هذا المجال، واستطاع بشار الأسد بصواريخه وطائراته الحربية أن يسرق منا هذا "الإنجاز".. عاد مؤشر القتل والموت المجاني ليضعنا على القائمة من جديد، ففي تقرير للأمم المتحدة بلغت حصيلة أعمال العنف في العراق 3383 قتيلا وجريحا خلال شهر تموز، فيما أشارت إلى أن هذه الحصيلة هي الأكثر دموية في البلاد منذ أكثر من خمس سنوات.
حكمت إيطاليا على برلسكوني بالإقامة الجبرية.. فيما نحن حُكم علينا أن نعيش في ظل ساسة لا يريدون للناس أن تنزل إلى ساحات الوطن لتعلن نهاية زمن "القائد الضرورة".
متى نقرأ خبر "اعتذار المالكي"؟
[post-views]
نشر في: 3 أغسطس, 2013: 10:01 م
انضم الى المحادثة
يحدث الآن
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...
جميع التعليقات 1
علي عبد علي
انكم يا سيدي الفاضل تقارنون بين عبدا فاسدا كبرلسكوني كونه من جنس البشر الفاني و بين قائدا عظيما منزلا من السماء معصوما من الاخطاء من جنس الاولياء كالسيد المالكي العظيم الذي انقذنا نحن البشر من شر الفاسدين طيلة حكمه و وفر لنا كل شيء نتمناه بدءا من الماء و