TOP

جريدة المدى > عام > فلك الدِّين كاكائي..سأل النَّاس مَن هذا الحلاج؟

فلك الدِّين كاكائي..سأل النَّاس مَن هذا الحلاج؟

نشر في: 3 أغسطس, 2013: 10:01 م

لقاء واحد يكفي أن تكون لك آصرة صداقة مع الأديب والمثقف العِراقي الكردي فلك الدين كاكائي (1943- 2013)؛ الذي رحل عن سبعين عاماً قبل يومين. بدأ الكتابة منذ منتصف عقد الستينات، بأسماء مستعارة، أبرزها الحلاج. كتب ونشر مقال بهذا الاسم، على مدى عقد مِن الزَ

لقاء واحد يكفي أن تكون لك آصرة صداقة مع الأديب والمثقف العِراقي الكردي فلك الدين كاكائي (1943- 2013)؛ الذي رحل عن سبعين عاماً قبل يومين. بدأ الكتابة منذ منتصف عقد الستينات، بأسماء مستعارة، أبرزها الحلاج. كتب ونشر مقال بهذا الاسم، على مدى عقد مِن الزَّمن(بدأ بكتابة الحلاجيات قبل النشر 1964)، في صحيفة "التآخي" الناطقة بلسان الحزب الدِّيمقراطي الكردستاني (1967 -1974) وما فيه مِن خواطر فكرية وسياسية، واستحضار الشخصية الشهيرة في التراث الحسين بن منصور الحلاج (قُتل 309 هـ).
ومِن خلال الحلاج تعرف الباحث القدير كامل مصطفى الشِّيبي (ت 2006) صاحب كتاب "الصِّلة بين التَّصوف والتَّشيع" على برعم جديد في حقل الثَّقافة العِراقية آنذاك؛ لكن باسم مستعار. كان اللقاء عبر كتاب الشِّيبي "الحلاج موضوعاً" (1975-1976)، ففيه رصد المؤلف كلَّ ما يتعلق بالحلاج، مِن كتابات الأولين والمتأخرين، وقد لفت انتباهه توقيع سلسلة مقالات في الصَّحيفة المذكورة باسم الحلاج، فظل يسأل عن عودة الحلاج مِن جديد، هل هو حلاج بالفعل أم اسم مستعار، حتى توصل إلى صاحب ذلك التوقيع وهو فلك الدِّين كاكائي، المولود بكركوك مِن أسرة فلاحية كادحة، ومِن نحلة اسمها الكاكائية الجامعة بين الصوفية وتأثيرات مِن شيعية وسُنية.
قص عليَّ فلك الدِّين كاكائي(2007 بأربيل) حكاية إمضاء مقالاته بهذا الاسم، وكان الدافع هو الإعجاب بتجربة الحلاج، ففي شبابه كان يقرأ كثيراً لمختلف الاتجاهات من يسارها إلى يمينها، مع قراءات في كتب التُّراث الإسلامي، لكنه لم يتمكن مِن إشغال فراغه الروحي والعقلي مما قرأ، ظل متأرجحاً متردداً بين قناعات شتى، وقد نفذ ما في مكتبة كركوك مِن كتب جديرة بالقراءة آنذاك، ولم يصل إلى مرسى فكري يطمئن إليه. 
وفي يوم مِن الأيام وقع بيده كتاب يلخص مأساة الحلاج، فنبتت في ذهنه وشيجة مع هذا الاسم، وأخذ يفكر بإعادة الحلاج إلى الحياة. هذا ما عبر عنه الشِّيبي وهو يبحث عن الاسم الصريح للحلاج قائلاً: "رُزق الحلاج بنصير جديد".
على أن هناك مَن نصره بعد محنته بكثير، ومنهم الشَّيخ عبد القادر الكيلاني (ت 561 هـ) صاحب الطَّريقة القادرية الشَّهيرة في عالم التَّصوف. يقول الكيلاني: "عَثر الحلاج فلم يكن في زمنه مَن يأخذ بيده، ولو كنت في زمنه لأخذت بيده"(عن الشِّيبي). بطبيعة الحال ما بين الحلاج والكيلاني زمن ناف على مئتي عام، لكن ما سرَّ بقاء الحلاج في ذاكرة بغداد، التي أُعدم بها، كلُّ هذا الزَّمن الطَّويل، حتى يصبح رمزاً لما يكتبه ابن القرن العشرين، مروراً بالكيلاني.
يصر كاكائي أن يسمي الحسين بن منصور الحلاج بالشَّهيد، وهو، وأراه مصيباً، لا يرى أنه قُتل صبراً بسبب أفكاره إنما كان قتله لشأن سياسي، وتلك قصة طويلة. عندما كان يحدثني عن تجربته مع الحلاج، لأكثر مِن ساعتين، شعرتُ أنه يحمل تجربة ذلك المتمرد بين ضلوعه، فقد ملأ ذهنه وحمى نفسه بطيف الحلاج من اتجاهات كانت تتجاذبه، مِن دون النُّزوع إلى تأسيس أو تبني تنظيم أو جماعة بهذا الاسم. ولشدة ذلك الشغف كتب الشِّيبي في كتابه عن الحلاج عمَّا كان فلك الدين ينشره باسمه:
"إن الحلاج دخل دنيا السِّياسة الصَّريحة على صورة زاوية ثابتة في جريدة التآخي البغدادية، بعنوان حلاجيات، وكان الكاتب الذي رمز لنفسه باسم الحلاج يعكس الأحداث مِن خلال الظُّروف التي أحاطت بالحلاج المقتول، ليُجدد ذِكره ويجعله نموذجاً للضَّحية البريئة للملابسات السيئة التي عاصرته، وأودت به باعتباره للمظلوم الحر، وكأن الكاتب الكردي كان يرمز إلى الشَّعب الكردي نفسه وقضيته في رأيه ... (و) عِلمنا في ما بعد أن الكاتب المتنكر هو فلك الدِّين الكاكائي"(كاكائي، حلاجيات).
في العام الماضي لم أتمكن مِن اللقاء بفلك الدِّين، وكنت متشوقاً له، لكن عثرت في المعرض المقام (نوفمبر 2012) بالسليمانية على قصته مع الحلاج وقد بثها في كتابه "حلاجيات، يقظة متوهجة في حضور الحلاج"(دار آراس 2010)..
كان اللقاء الأول المباشر معه (أكتوبر العام 2000) بأربيل أيضاً، فقد كنت مِن قبل متعرفاً عليه بالاسم الصِّريح لا المستعار (الحلاج)، أقرأ له هناك وهناك إضافة إلى حضور اسمه في المعارضة العِراقية، ليس مِن الخارج إنما مِن على قِمة الجبل، بعد غياب اسمه وتبدل "التَّآخي" (1974) بطبعة تتماشى مع حكومة بغداد آنذاك. 
كانت الزيارة مع وفد مِن المثقفين العراقيين والعرب بتحضير مِن الإعلامي والصَّحافي فخري كريم، لإحياء الذكرى المئوية لميلاد الجواهري (ت 1997)، وما أن عبرنا النَّهر مِن ضفة القامشلي بسوريا استقبلنا مِن قبل قيادات في حكومة الإقليم والحزب الكردستاني الدِّيمقراطي، وأول كلمة سمعناها هي "الحل ببغداد"، وكان فلك الدِّين هو الوجه البارز في ذلك اللقاء. في ذلك الوقت كُتب ضدنا الكثير جداً والجارح جداً وبأقلام ناهشة لا كاتبة.
أتذكر أن كلمة الأخوة العرب ألقاها الصَّحافي المصري حسين عبد الرَّازق، رئيس صحيفة "الأهالي" حينها، فاستهلها بالقول: "إن الأمة الكردية جزء من الأمة العربية". يومها كانت الخواطر مازالت مستفزة، بوجود النِّظام السَّابق وما بينه وبين المنطقة مِن آلام، فتصاعد الضجيج ضد عبد الرَّازق، ولما نزل مِن المنصة صعد بعده فلك الدِّين كاكائي موضحاً، شاكراً العاطفة السَّخية ومشيراً إلى ما بين العرب والكُرد مِن وشائج التَّاريخ والوطن، لكن حسب عبارته: "لسنا جزءا من الأمة العربية وإنما نحن أمة". انتهت الأزمة وخفت الضجيج، وبقينا نلاطف صديقنا عبد الرازق بما لم يحسب له حساب، والرَّجل كان يقصد الوشَّائج لا انشطار الكُرد مِن العرب مثلما ذهب إلى ذلك مؤرخون مثل أبي الحسن المسعودي(ت 346 هـ) وغيرها.
كان جلُّ كتابات كاكائي بالعربية ولسانه فصيحاً بها، وهو الأبعد عن أي تعصب، فلبيئة مسقط رأسه كركوك فضل عليه، لأنها الجامعة للأقوام العراقية. أفادني فلك الدَّين، في اللقاء معه العام 2007 بأربيل أيضاً، ما لم تفدني المصادر والمراجع، في شأن طائفته الكاكائية، وهذا ما أضفته للطبعة الثَّالثة مِن كتاب "الأديان والمذاهب بالعِراق: الذي أعمل به ليصدر بثلاثة أجزاء.
الحديث عن شخصية مثل فلك الدِّين كاكائي لا تكفيه مدونة أو مقال، فهو المخلص لإنسانيته والصريح بلسانه والكفء في المهام التي أنيطت به، ولعله لا يفضل مهمة مثل تفضيله للثقافة. 
يسأل فلك الدِّين، بما يعبر عن أمنيته لهذا الوطن الجريح ويعبر بها عن العالم بأسره: "متى تلتئم جِراح التَّاريخ؟ ومتى يستكين الوجدان، وتختفي شهوة الانتقام". هذا آخر ما سمعناه منه وما قرأناه له. إنه الحلاج الذي شغل قراء عقد الستينات والسبعينات ببغداد.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

موسيقى الاحد: الدرّ النقيّ في الفنّ الموسيقي

في مديح الكُتب المملة

جنون الحب في هوليوود مارلين مونرو وآرثر ميلر أسرار الحب والصراع

هاتف الجنابي: لا أميل إلى النصوص الطلسمية والمنمقة المصطنعة الفارغة

بيت القصب

مقالات ذات صلة

علم القصة: الذكاء السردي
عام

علم القصة: الذكاء السردي

آنغوس فليتشرترجمة: لطفيّة الدليميالقسم الاولالقصّة Storyالقصّة وسيلةٌ لمناقلة الافكار وليس لإنتاجها. نعم بالتأكيد، للقصّة إستطاعةٌ على إختراع البُرهات الفنتازية (الغرائبية)، غير أنّ هذه الاستطاعة لا تمنحها القدرة على تخليق ذكاء حقيقي. الذكاء الحقيقي موسومٌ...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram