TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > في غواية الرحيل

في غواية الرحيل

نشر في: 6 أغسطس, 2013: 10:01 م

الشاطر حسن في الأسطورة يقرر الترحال من أجل تجريب حظه. ونحن، ألم نفكر في كل رحلة في زاوية ما من دواخلنا، بأننا هذه المرة سنعثر على الحظ، سنطرق على بابه، بأن من اللازم أن تكون هذه المرة القصور الإسبانية أو السواحل الكاريبية أو قرى جزيرة صقلية التي تنفتح أمامنا وبلانهاية؛ وفي نهاية المطاف لابد أن نصل إلى النقطة، التي نستل فيها مفاتيح ذهبية مرمية عند هناك في الأفق تحت أقدام قوس قزح برق أمام عيوننا والتي سنعثر بالتأكيد عن طريقها على كنوز مدفونة؟
في السفر لا نغيب عن العادات والأوضاع المألوفة فقط إنما نغيب عن كل ما هو ثابت في محيطنا بشكل عام. لذلك يحرص المرء عند الرحيل على تغيير أشكال التعليب الحياتية اليومية فقط وليس كسرها. لكن هذا يحدث عندما نسمح لأنفسنا في الدخول في أمر ثابت وتسليم أنفسنا لمجموعة معينة أو لنموذج واحد بالسفر يغوينا تماماً. من يتصرف هكذا، يُسلم نفسه للهرب من نفسه؛ لكن كل رحلة، لا يكون هدفها هو أن يعود المرء إلى نفسه، هي ضرب من العبث.
هناك الكثير من كاتالوجات السفر التي تتوسم أن تكون دليل المسافر. رغم ذلك فأن المرء يحتاج الكاتالوج فقط عندما تكون غواية السفر قد تمت. لذلك السبب يجب أن يتم الإغراء قبل ذلك، عندما أضع في رأسي أمراً جميلاً في زمن يعمل ضد كل جمال. ولكن ألا يحتاج المرء أحياناً أحداً ليغويه؟ أليس الغواية عن طريق أحدهم أكثر حضوراً وقوة؟
قبل سنوات عندما كنت في بلاد كان اسمها "الجمهورية العراقية"، رافقت أحد الأصدقاء حتى محطة القطار. في لحظة تحرك القطار، شعرت بقدمي تقوداني إلى القطار، لأقفز في العربة دون حقائب ودون تذكرة؛ لقد هجمت غواية القطار المتحرك على قلبي بصورة كبيرة. نزلت في المحطة الثانية على أمل الرجوع، لكن بعد تجوال في المدينة الصغيرة، وجدتني أُكمل الرحلة في المساء ليس باتجاه بغداد كما كنت أعتقد. ثم رجعت بعد عشرة أيام فقط عند انتهاء هذه المغامرة المتوحشة. وكم كلفني جهداً كبيراً أن أُقنع عميد الجامعة بشطب أيام غيابي، فلم يحق لنا الغياب أكثر من ثلاثة أيام دون عذر. لا أنصح أحداً بتقليد ما صنعته أثناء أيام دراستي الجامعية؛ لن أنسى الرحلة التي قمت بها إلى فرنسا وأنا أصعد إلى طائرة الخطوط الجوية العراقية في 14يوليو 1976( كان لي تسعة عشرة عاماً)، لأظهر في باريس فجأة وفي جيبي مئتين دولار فقط، لأحدث الصديق الرسام فيصل لعيبي الذي كان مقيماً آنذاك في باريس عن نيتي بدراسة الإخراج السينمائي في باريس! كانت سنوات الغواية. لم أعرف أنني سأعود بعد شهرين إلى بغداد بخفي من حنيني، لكن في الأقل، هذه المرة بثروة كبيرة: رؤيتي لفيلسوف الوجودية الفرنسي جان بول سارتر ورفيقة حياته سيمون دوبوفوار يجلسان في مقهى فلور، عند طاولتهما في زاوية المقهى التي سأجلس قريباً منها كلما زرت باريس. لكن أليس هناك سنّ واضح مثل الشمس يموج بالحرية حيث يرغب المرء برؤية كل ما يجلب معه اضطراب نهاية الرحلة، هدّ الخيام، حرية الرعاة وجوالي الآفاق وحيث المرء يكتب وينام في مكان بعيد ـ لايهم أين ـ؟ طوبى لبطل زماني المضطرب! وأتمنى عبث تلك السنوات الدراسية لكل من يتمنى لقلبه بالحرية. لكل من يحلم بالسفر إلى البعيد!
كم هي مغرية أسماء الأماكن الغريبة! كل ما هو حاضر وموجود يغوي: كل ثمرة غريبة، كل نبيذ يهمس لك بسحر مكان للإقامة، كل حقيبة في زجاج محل، كل سكة حديد تلمع، كل بالون على شكل كرة أرضية، كل أطلس، كل حروف جريدة غريبة تنادي آلاف الأصوات. كل شارع يهمس: سر فوقي فقط، امش فوقي.
 يتبع

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

بالحوارِ أم بـ"قواتِ النخبة".. كيف تمنعُ بغدادُ الفصائلَ من تنفيذِ المخططِ الإسرائيلي؟

تحديات بيئية في بغداد بسبب انتشار النفايات

العراق بحاجة لتحسين بيئته الاستثمارية لجلب شركات عالمية

الكشف عن تورط شبكة بتجارة الأعضاء البشرية

مركز حقوقي: نسبة العنف الأسري على الفتيات 73 % والذكور 27 %

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الداخلية وقرارات قرقوشية !!

العمودالثامن: برلمان كولومبيا يسخر منا

العمودالثامن: في محبة فيروز

مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض

الفساد ظاهرة طبيعية أم بسبب أزمة منظومة الحكم؟

العمودالثامن: في محبة فيروز

 علي حسين اسمحوا لي اليوم أن أترك هموم بلاد الرافدين التي تعيش مرحلة انتصار محمود المشهداني وعودته سالما غانما الى كرسي رئاسة البرلمان لكي يبدا تطبيق نظريته في " التفليش " ، وأخصص...
علي حسين

قناديل: (قطّة شرودنغر) وألاعيب الفنتازيا

 لطفية الدليمي العلمُ منطقة اشتغال مليئة بالسحر؛ لكن أيُّ سحر هذا؟ هو سحرٌ متسربلٌ بكناية إستعارية أو مجازية. نقول مثلاً عن قطعة بديعة من الكتابة البليغة (إنّها السحر الحلال). هكذا هو الأمر مع...
لطفية الدليمي

قناطر: أثرُ الطبيعة في حياة وشعر الخَصيبيِّين*

طالب عبد العزيز أنا مخلوق يحبُّ المطر بكل ما فيه، وأعشق الطبيعة حدَّ الجنون، لذا كانت الآلهةُ قد ترفقت بي يوم التاسع عشر من تشرين الثاني، لتكون مناسبة كتابة الورقة هذه هي الاجمل. أكتب...
طالب عبد العزيز

الفساد ظاهرة طبيعية أم بسبب أزمة منظومة الحكم؟

إياد العنبر لم تتفق الطبقة الحاكمة مع الجمهور إلا بوجود خلل في نظام الحكم السياسي بالعراق الذي تشكل بعد 2003. لكن هذا الاتفاق لا يصمد كثيرا أمام التفاصيل، فالجمهور ينتقد السياسيين والأحزاب والانتخابات والبرلمان...
اياد العنبر
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram