TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > في جمال الرحيل

في جمال الرحيل

نشر في: 13 أغسطس, 2013: 10:01 م

نعم، يا لجمال السفر، كم هي مغرية كل الأماكن الغريبة التي ستقف عندها: هكذا ستقف ذات يوم أمام دير مدينة باث الإنكليزية أو عند في مدينة المكتبات هاي أو واي في إقليم ويلز تنظف يديك في مغسلة بُنيت في زاوية مكتبة تبيع كتب الأنتي كفاريات، ستقف عند كنيسة نوتردام في باريس أو عند مكتبة شكسبير وشركائه، عند متحف البرادو في مدريد أو أمام بوابة كاتدرائية إشبيلية أو تتمشى تحت أعمدة جامع قرطبة أو تسير في ظلال شجيرات الرمان في حدائق قصر الحمراء في غرناطة، تزور مقبرة المونبرناس أو مقبرة بير لاشيز تبحث عن رفاق جوالين مثلك ماتوا في منفاهم وحيدين، ميغيل أستورياس وشوبان وصادق هدايات في الأقل لذكر بعض الأسماء الذين رقدوا هناك، أو تقف عند متحف لينين في موسكو أو عند بيت دوستويفسكي في سانت بطرسبورع أو تصعد سلالم الصحن الخلفي لبيت مزو صعدت عليها قدما راسكولينيكوف قبل قتله العجوز، تقف عند أعمدة جزيرة رودوس أو عند منار الإسكندرية أو عند بيت كفافيس ومقهى إلييت حيث مدام كريستين تقدم لك شوربة الطماطم لأنك أصبت بالبرد، مدام كريستين التي ورثت المطعم المبني على شكل سفينة والتي جلست وهي طفلة في حضن الشاعر وهو يشرب عرقه اليوناني الأوزو الناصع البياض" في انتظار البرابرة"، نعم، كم جميلة هي أسماء الأماكن الغريبة، التي ستسير عليها قدماك ذات يوم: ستسير على خطى ملك الأنوات الممزقة صديقنا الممزق الأبدي فرناندو بيسوا في شوارع وأزقة لشبونة الضيقة، تصعد معه سلالم مدرجات حي البايشا أو في الحي آلتو، تدخل المقاهي والحانات التي دخلها حيث شرب الشاعر الذي ظهر في كل صوره ميلانكولياً وهو يكتب رسائله لحبيبته الوحيدة، تقف أمام بيت شكسبير في ستانفورد أو عند قلعة هاملت في هلسينغتور في الدانمارك، أو تقف عند صخرة النورد كاب في نهاية العالم في شمال النرويج، تدخل المتحف البريطاني في لندن أو متحف الأوفيزي في فلورنسا أو الأرميتاج في سانت بطرسبورغ، تقف عند ساحل مدينة بوليس القبرصية في ساعات الفجر الاولى لترى كيف تخرج أفروديت مشعة مثل الشمس من عمق البحر، على ظهر سفينة تمخر وسط البحر المتوسط وفوقك نجوم السماء، تتساقط بين يديك واحدة بعد الأخرى، فيما يمتد أمامك الأفق بلا حدود، في البيت الذي نام فيه رامبو في عدن أو تشرب من باء البئر، زمزم الذي شربت منه سارة وسقت منه بمائها ولدها إسماعيل، تحت جدران الكعبة تركض مثلها أو تلمس الحجر الأسود بيديك النحيلتين، تصعد على دراجة في شمال سهوب وغابات السويد أو على ظهر جمل في صحراء تشون تشان تشين عن طريق الحرير. نعم، أنت جوال الأفق والكلمات، كما كتبت لك صديقة ذات يوم، عاشق البلدان الأخرى والمتوزع في كل مكان، في نيويورك أو في سان فرانسيسكو، في باريس أو بيروت، في القاهرة أو في مدريد، في بغداد أو في برلين، في كل مكان ممكن في هذا العالم لا يخطر على بالك الآن!
في اللغة الروسية لا يعرف المرء فقط التمني "سفرة سعيدة" للآخر، إنما بإمكان المسافر أن يردد: "بقاءً سعيداً". لا يخلو ذلك من معنى: هناك آلاف القوى من بشر ومكائن وأماكن تبذل جهدها لإسعاد المسافر؛ في الوقت الذي يُترك فيه المقيم مع قوى خبيثة: العثة، الصدأ، والفطِّر، البقاء مدة أطول في سجن الروتين والعادة اليومية في مجرى الزمن البطيء الغير متغير، (في العراق يُترك المرء مع السيارات المفخخة واللصوص، قطاع الطريق العام؛ مع حكومة "دولة الفانون" وميليشيات "من هب ودب"، عبيد الإرهاب!)
مع ذلك فأنت لن تكون سعيداً دائماً في السفر: عند بعض المساءات وعند غروب الشمس ستهجم عليك كآبة ثقيلة، فتور في العزيمة ونفور سيُلقون بغبارهم على قلبك، لتشيخ سعادتك بسرعة، كم تود أن تُسلم نفسك لبحر الصور التي تتماوج أمامك، أن تُسلم نفسك للانهائية الزمن، لكي تتملص من تلك الصورة التي تبدأ تظهر بإلحاح في نهاية الرحلة: صورتك وأنت تعود إلى البيت، صورة مدير العمل، أو صورة ساعي البريد يحمل لك رسائل مكتب الضرائب، وغرامات البوليس وكاتالوجات الدعاية وفاتورات دفع الكهرباء والغاز. حينها ستزفر بحرقة وتمد يدك إلى جيوبك. فارغة. كم تتمنى أن تكون بلا إقامة، مبعداً في مكان متروك.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: سياسيو الغرف المغلقة

العمود الثامن: مطاردة "حرية التعبير"!!

العمود الثامن: عاد نجم الجبوري .. استبعد نجم الجبوري !!

السردية النيوليبرالية للحكم في العراق

العراق إلى أين ؟؟

العمود الثامن: سياسيو الغرف المغلقة

 علي حسين في السبعينيات سحرنا صوت مطرب ضرير اسمه الشيخ امام يغني قصائد شاعر العامية المصري احمد فؤاد نجم ولازالت هذه الاغاني تشكل جزءا من الذاكرة الوطنية للمثقفين العرب، كما أنها تعد وثيقة...
علي حسين

زيارة البابا لتركيا: مكاسب أردوغان السياسية وفرص العراق الضائعة

سعد سلوم بدأ البابا ليو الرابع عشر أول رحلة خارجية له منذ انتخابه بزيارة تركيا، في خطوة رمزية ودبلوماسية تهدف إلى تعزيز الحوار بين المسلمين والمسيحيين، وتعزيز التعاون مع الطوائف المسيحية المختلفة. جاءت الزيارة...
سعد سلّوم

السردية النيوليبرالية للحكم في العراق

احمد حسن تجربة الحكم في العراق ما بعد عام 2003 صارت تتكشف يوميا مأساة انتقال نموذج مؤسسات الدولة التي كانت تتغذى على فكرة العمومية والتشاركية ومركزية الخدمات إلى كيان سياسي هزيل وضيف يتماهى مع...
احمد حسن

الموسيقى والغناء… ذاكرة الشعوب وصوت تطوّرها

عصام الياسري تُعدّ الموسيقى واحدة من أقدم اللغات التي ابتكرها الإنسان للتعبير عن ذاته وعن الجماعة التي ينتمي إليها. فمنذ فجر التاريخ، كانت الإيقاعات الأولى تصاحب طقوس الحياة: في العمل، في الاحتفالات، في الحروب،...
عصام الياسري
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram