اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > تشكيل وعمارة > نصف قرن على تصميمه..عمارة جامع الخلفاء.. اكتشاف "الذات" المعمارية

نصف قرن على تصميمه..عمارة جامع الخلفاء.. اكتشاف "الذات" المعمارية

نشر في: 16 أغسطس, 2013: 10:01 م

بالإمكان الآن، توظيف ستراتيجيات النقد الحداثي، في إعادة قراءة عمارة "جامع الخلفاء" ببغداد، بعد نصف قرن على تصميمه (1963)، المعمار "محمد مكيه" (1914)، لجهة اكتشاف أعمق لنوعية العمارة المنجزة، والاستدلال على جدية وقيمة حلولها التصميمية. واذا سعينا وراء

بالإمكان الآن، توظيف ستراتيجيات النقد الحداثي، في إعادة قراءة عمارة "جامع الخلفاء" ببغداد، بعد نصف قرن على تصميمه (1963)، المعمار "محمد مكيه" (1914)، لجهة اكتشاف أعمق لنوعية العمارة المنجزة، والاستدلال على جدية وقيمة حلولها التصميمية. واذا سعينا وراء تأمل تلك العمارة، وخصائصها التكوينية، ضمن انساق جمالية وثقافية، ليست، فقط مكتفية بطبيعتها المباشرة، وإنما تقتضي الغوص في "اركيولوجيتها" المُضمرة، بعيداً عن سطوة "المركزيات" المهيمنة، والداعية الى تقويض مقولاتها السائدة في الخطاب؛ فليس هناك، افضل من الاتكاء على مفاهيم "التاريخانية الجديدة"New Historicicsm (وليس التاريخانية!)، سعياً لبلوغ مثل ذلك المرتجى. أذ تتيح تلك المقاربة النقدية الحداثية (او بالأحرى: ما بعد الحداثية)، فهم الأثر المعماري ضمن سياقه التاريخي والثقافي، وبانفتاح واسع على مجمل الأفكار المؤسسة لتلك السياقات.

تُعّد، نقدياً، فترة بدء الستينات، وما تلاها، (وهي الفترة المواكبة لظهور عمارة جامع الخلفاء)، بالفترة الحافلة بإرهاصات التغير، والمتجاسرة برفع راية التمرد الأسلوبي، في وجه، ما سيدعوه "جان – فرنسوا ليوتار"J-F. Loyotard لاحقا، بـ "السرديات الكبرى". وما تلك "السرديات"، هنا، سوى هيمنة وسطوة "التيار الدولي"International Style ، ونفوذه في المشهد والخطاب معاً. فذلك التيار، الذي اولى <الوظيفية>، جل اهتمامه، متعالياً عن الاهتمامات المحلية، وعابراً لجغرافيتها، ونافياً لتقاليدها، كان التيار السائد، والاكثر رواجا في الممارسة المعمارية العالمية، وخصوصا في نسخته "الميسويه" <نسبة الى ميس فان دير روّ>، وبالتالي كان التيار الاكثر رسوخا بالمشهد، والحاصل على مقبولية جد عالية من قبل كثر من المصممين، رغم تباين مرجعياتهم الثقافية، واختلاف اثنياتهم. في تلك الفترة ، تحديداً، تنبه البعض الى قيمة "التاريخ": التاريخ المعماري وذاكرته المترعة، بانشغالات، وفقا ،ومرة أخرى، بحسب ليوتار بـ "السرديات الصغرى": الهم المحلي المغيب، والاعلاء من قيمة التقاليد المعمارية ورموزها. بيد ان تلك الانشغالات لم تكن معنية في "إحياء" التاريخ، لجهة استجداء فورماته المتداولة في صيغتها "الباستيشيه"Pastiche ، بل تهدف الى استعادته، استعادة مشروطة بشرط التحديث، ومعايير الحداثة، والطامحة، أيضاً، الى تمثيل روح المكان، الذي تنهض به تلك المباني. وهو ما تجسد ، بكفاءة (وبندرة ايضاً)، في عمارة ذلك المبنى المدهش: جامع الخلفاء.
وعن عمارة ذلك المسجد، كتبت يوما ".. لا يطمح مخطط تصميم "جامع الخلفاء" الى حل نفعي ومباشر لتجسيد مفردات المنهاج الداعية لتصميم فراغات "مسجد" باشتراطات محددة؛ "فالمكان"، و"شواهد المكان"، و"موقع المكان"، كلها امور غير عادية، لم يكن بمقدور المصمم تجاهلها او التغاضي عنها. فالمسجد المنوي تشيده يقع ضمن منطقة تاريخية مهمة في تاريخ الإسلام والخلافة الإسلامية، التي كانت بغداد يوما ما حاضرة ً لهـا، ثم ان وجود المأذنة التاريخية، في الموقع، والتي يعود تاريخها الى اواخر القرن الثالث عشر (1279) واهميتها الاثارية وارتفاعها الشاهق (يصل ارتفاعها الى حوالي 35 مترا) وهيئتها المميزة واسلوب تزيناتها وطبيعة موادها وتراكيبها الانشائية، فضلاً عن ان الموقع ذاته شغلته يوما ما، مساجد بغدادية فسيحة ومهمة، لم يبق شاهدا منها الا مأذنة تنهض اليوم عاليةً في الموقع؛ كل ذلك كان حرياً بان يُـؤخذ في نظر الاعتبار عند اعداد الفكرة التصميمية للمسجد. ولهذا فان القرار التصميمي لم يكن معنيا كثيرا بايجاد فراغات مناسبة للمصليين، وهي الوظيفة الاساسية لمبنى مسجد، بقدر ما كان ينزع ذلك القرار الى حضور تجليات القراءة الحديثة لسجل التاريخ البنائي والعمراني لتلك المنطقة؛ والتماهي تصميمياً مع عناصر ورموز مألوفة للذاكرة الجمعية ومعروفة لديـها. فالمعمار، هنا يستثمر الحدث التصميمي لإعادة انتاج ذلك الموروث الثر والنبيل، الذي ما فتأ يثير همة وحماس البناة المحليين، ولهذا فان تنظيم الاحياز التصميمية لمسجد الخلفاء، وتشكيل عناصره المعمارية كانت معنية، في اعتقادنا، الى تكريس حضور الفضاء تكوينياً، الفضاء العاج بالنكهة التاريخية، وان لا تغلب العناصر المستحدثة شاهد الاجيال السابقة، وان لا تحاول ان تطمس منجزها التصميمي البارع! وبعبارة اخرى، يستبدل المعمار، المسكون بحضور الغياب، مراميه التصميمية في ابتداع فراغات جديدة، يستبدلها لجهة اقتصار الفعالية التصميمية وجعلها تعمل "كخلفية" بنائية background لـ "فكرة" متخيلة تكون مشاعة للجميع ، في تصور ما يمكن ان يكون عليه "جامع الخلفاء" جنبا الى جنب شاهده المادي المثير- المأذنة التاريخية العتيدة، ذات "الفورم" الجميل والتناسبات النبيلة".
"يبقى هاجس التفصيل سيد التكوين في عمارة "جامع الخلفاء"؛ التفصيل الذي يطمح لان يكون مكافئاً للمنظومة التزينية التي تكسو سطوح المأذنة المجاورة من جهة، ومن جهة اخرى يسعى التفصيل وراء تكريس هيئات العناصر المعمارية التراثية المألوفة وجعلها مفردات نشطة في صميم المعالجات التكوينية للمسجد، بيد ان المعمار، هنا، لا ينساق وراء اغواء وجود العناصر التراثية ليعلن انتماء عمارته الى المكان، ذلك لان التفصيلات المستخدمة، عدا كون اشكالها هي نتاج فعالية تفسيرية، فانها تستثمر طاقات المادة الانشائية الحديثة المعمولة بها تلك الاشكال الى اقصى حد، وتنزع لان تتواءم مع امكاناتها التركيبية. ويبدو ان مزاوجة استخدام منظومة التزيينات القديمة مع الحلول الحديثة هو الذي يمنح "جامع الخلفاء" ذلك الاحساس العالي بنظارة وحداثة القرارات المعمارية ومنطقيتها؛ وفي النتيجة ، فنحن ازاء تمرين بصري ممتع، يزيده امتاعا كون العناصر البنائية التقليدية قد تم تأويلها لتتناسب مع مجرى استحقاقات لغة العمارة الحداثية. وهذا الامتزاج النبيـه الذي تحقق في "جامع الخلفاء" عدّ حدثاُ تصميمياً مهماً، وطدّ تداعيات مبادئ وقيم تيار "الاقليمية الجديدة" الناشئ، وابان مقارباتها المميّزة في الخطاب المعماري العربي بصورة واضحة وجليّـة. ويظل الاهم في عمارة جامع الخلفاء، هو ذلك النزوع نحو اكتشاف "الذات" المعمارية المحلية، وترويض تقاليدها وحتى رموزها، والارتقاء بها لتكون متسقة ومتكافئة مع اشتراطات مجرى العمارة العالمية وتطلعات الحداثة. وهو أمر اسس لما بعد، لظهور "التيار الاقليمي الجديد"، كأحد اجتهادات الممارسة المعمارية العالمية الراهنة. 
ولد "د. محمد صالح مكيه" عام 1914 في بغداد، بمحلة "صبابيغ الال"، المحلة البغدادية الاصيلة، التي اعتبرها الشخصية الوطنية والثقافية عبد اللطيف الشواف، في كتابه "شخصيات نافذة" من المحلات القليلة الباقية التي رجح اصل سكانها، بانهم اسلاف "بغداد العباسية"، ذلك لانها مع تخومها ظلت، لقرون عديدة، بمنأى عن هموم وامال وتبجحات سكنة "جديد حسن باشا" - مقر الولاة في بغداد العثمانية، كما انها لم تطلها نوبات الغضب المتعددة التي كان ينزلها الولاة / الحكام باستمرار على تلك المحلات القريبة من مكان سكناهم وعملهم ، العاجة بمناخات الدسائس والمؤامرات والمكائد التي لا تنقطع! 
انهى "د. محمد مكيه" تعليمه المعماري في انكلترا، في "ليفربول" – مدينة المعماريين العراقيين الرواد، الذين تأهل اكثريتهم في مدرستها المعمارية وحصلوا منها على شهادات التخرج المهنية، امثال احمد مختار ابراهيم، وحازم نامق، وجعفر علاوي، وعبد الله احسان كامل، ومدحت على مظلوم وغيرهم؛ كما انهى "مكيه" دراسته العليا < الدكتوراه > من "كينغز كولوج" Kings College في كمبريج عام 1946. صمم "مستوصف" في الشيخ عمر ببغداد (1949)، و"دور الاميرات" في المنصور (ومنها اخذ الشارع اسمه: شارع الاميرات)، ومبنى "بلدية الحلة" 1951، وفندق "ريجنت بالاس" بالرشيد ببغداد (1954)، ثم صمم مبنى "الكلية التكنولوجية" في باب المعظم ببغداد (1966) <والذي شغلته كلية التربية لاحقاً>، ومكتبة ديوان الاوقاف العامة ببغداد (1967)، ومبنى مصرف الرافدين في الكوفة (1968)؛ وكذلك مبنى المصرف ذاته في كربلاء (1968)، ومبنى متحف الموصل (1968)، ومبنى "الشيخ مبارك" في البحرين (1973)، ومبنى "مسجد الكويت الكبير" في مدينة الكويت (1976)، ومسجد الصديق في الدوحة (1978)، ومشروع جامعة الرشيد في بغداد (1981)، اضافة الى مشروع جامعة العين بالإمارات ( 1983)، وكذلك التصميم المعد للجامعة العربية في تونس (1983)؛ فضلاً عن مشروعه لجامع الدولة الكبير في بغداد (1982) وعشرات المشاريع الاخرى ذات الاغراض الوظيفية المتنوعة والمنفذة في العراق وفي بلدان الخليج المختلفة.
معلوم، ان د. محمد مكيه سيكمل مئة سنة من عمره المديد في العام القادم: عام 2014، وهي مناسبة جد مهمة في سجل احداث المشهد المعماري والثقافي العراقي والاقليمي على حدٍ سواء. واثناء وجودي في بغداد قبل اشهر، خاطبت امانة بغداد، مقترحاً وبمبادرة شخصية، ان تحتفي بغداد، ممثلة بامانتها، بابنها البار: معمارها المئوي. وحصلت على موافقة السيد الامين الاستاذ عبد الحسين المرشدي، على ان يكون الاحتفاء بيوم واحد، ضمن فعاليات يوم بغداد ربيع 2014. ومع اننا نرى بان يوما واحدا غير كاف، لتغطية هذه المناسبة، ولكن مع هذا، فان أمانة بغداد اعطت بموافقتها تلك، مثالاً وحافزاً للاوساط الثقافية والمهنية والاكاديمية، (وخصوصا الاكاديمية، التي ارتبط اسم محمد مكيه بتأسيس وإدارة اول مدرسة معمارية بالعراق)، بضرورة التحضير والاحتفاء بتلك المناسبة، التي يتعين ان يكون تنظيمها، وتنوع اجندتها، ومستوى المشاركة فيها، يليق بالمعمار وبمقاربته التصميمية؛ المقاربة، التي كانت تمثل ولا تزال، احدى تنوعات ذلك المنجز المعماري العراقي الفاخر.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

الشرطة المجتمعية: معدل الجريمة انخفض بالعراق بنسبة 40%

طبيب الرئيس الأمريكي يكشف الوضع الصحي لبايدن

القبض على اثنين من تجار المخدرات في ميسان

رسميًا.. مانشستر سيتي يعلن ضم سافينيو

(المدى) تنشر جدول الامتحانات المهنية العامة 

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

إندونيسي يتزوج 87 مرة انتقاماً لحبه الفاشل 

إندونيسي يتزوج 87 مرة انتقاماً لحبه الفاشل 

شباب كثر يمرون بتجارب حب وعشق فاشلة، لكن هذا الإندونيسي لم يكن حبه فاشلاً فقط بل زواجه أيضاً، حيث طلبت زوجته الأولى الطلاق بعد عامين فقط من الارتباط به. ولذلك قرر الانتقام بطريقته الخاصة....
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram