TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > كسر القلوب والعقول يا بترايوس

كسر القلوب والعقول يا بترايوس

نشر في: 17 أغسطس, 2013: 10:01 م

نقطة مهمة ينبغي أن لا تغيب عنا، وأن لا نمل من التفكير في معناها، تلك التي يشير إليها تقرير المركز الدولي لإدارة الأزمات (آي سي جي) وهو أبرز مشغل بحثي عن الأزمات حول العالم، في تقريره الأخير حول العراق.
معدة التقرير ماريا فانتابي التي تحدثت إلى خبراء أميركان وقادة عراقيين ومراقبين محليين، تقول في الخلاصة التنفيذية والتوصيات، ان على صانع السياسات العراقي ان يتذكر كل لحظة، كيف فشلت أجهزة المخابرات الأميركية وجيوش البنتاغون، وكل التنسيق والإمكانات اللوجستية المتاحة لها، في وقف العنف حين اعتمدت على نموذج عسكري في مواجهة الانتحاريين والجماعات العقائدية المسلحة، وهذا ما ادركه البيت الأبيض بعد ثلاثة أعوام من العنف وسقوط الآلاف من جنودهم إلى جانب مجازر مروعة بين المدنيين العراقيين، حيث أذعنوا بعدها إلى نموذج كان يبشر به الانثروبولوجي والجنرال الأميركي ديفيد بترايوس، يقوم على "كسب القلوب والعقول" أي بناء ثقة مع المجتمعات المحلية يضمن الحد الأدنى من مطالبها، وتعريف المصالح المشتركة التي تتطلب وقف العنف.
وبفضل ذلك بدأ الاستقرار النسبي يتشكل وتظهر نتائجه الواضحة منذ ٢٠٠٨، حيث شعرت الزعامات الاجتماعية في المناطق الساخنة، بأن هناك ضمانات كافية للتعاون مع نواة النظام السياسي في العراق، فقدمت خدمة عملياتية واستخباراتية، وقدمت تضحيات أيضا، انتهت بتطويق القاعدة وإحلال قدر كبير من الهدوء، جعلنا نأمل أن من الممكن حقا لنظامنا الفتي، ان يواصل كسب القلوب والعقول، كما في عبارة بترايوس المفضلة.
لكن القلوب تحطمت والعقول توقفت عن العمل، مع رحيل آخر جندي نهاية ٢٠١١. وشعر "الحاكم بأمره" بأنه تخلص من "خرافات" بترايوس، وأن الأوان حان "لتصحيح المسيرة" فاستل السيوف وراح يرتجز وينشد حماسات أيام العرب، موقنا بسحق كل الخصوم.
ولذلك يردد المراقبون الأجانب اليوم، ومعهم كل عقلاء البلاد، ان العمل العسكري لن يجدي نفعا مع كل القلوب الكسيرة التي تشعر بالإهانة، وأن حملات الاعتقال الواسعة لن توقف العنف، بل ستعني جعل شريحة مهمة من المجتمع تشعر قسرا، بالتعاطف مع بعض عمليات تنظيم القاعدة على الأقل. وهذا أخطر ما يمكن ان يواجه مفهوم الدولة، التي تنسى فشل الأميركان العسكري، بل تنسى فشل أداة القمع لصدام حسين في إخضاع خصومه، لأنه لم يكن يقاتل إرادة حزب أو ميليشيا، بل إرادة كتلة اجتماعية يمني نفسه بسحقها وإذلالها، فكان نصيبه ذل وهوان، ونصيبنا انهيار وتبديد لإمكانات الدولة.
لكنّ هناك أمراً يفوق هذا خطورة في أوضاعنا الحالية، وهو ما يجعل أمثالي يعتقدون بقوة ان أكبر مشاكلنا هو نموذج التشبث بالسلطة في بغداد. فلنفرض ان السلطان الحالي اقتنع بحديث ماريا فنتابي وخبرائها، وطلب من بعض قادته ان يتقمصوا دور "بترايوس" ويحاولوا كسب العقول والقلوب، لتوفير حل سياسي واجتماعي إلى جوار "الصولات العسكرية"، عندها هل ستكون أمامه فرصة معقولة للنجاح؟
الوقائع تشير إلى ان الفريق الحالي للسلطة، لا يمتلك مقومات تشجع أي طرف على منحه قلبا لا عقلا. وليست الحواجز النفسية التي أُنشئت منذ ٢٠١١ وحدها تمنع ذلك، بل ان عجز العقلاء من طائفة السلطان، في إسماع النصح لحاكم يصم أذنيه، يجعل أبناء الشرائح الاجتماعية الأخرى نافرين من الحوار معه، لا يصفونه إلا بأنه طرف غير مؤتمن، يصعب الوثوق به، ولا ترجح محاورته. وهذه النقطة هي اكثر ما يستوعبه سلطاننا، فهو يدرك انه سيعجز عن استعادة صورته "كزعيم حالم بتوحيد البلاد" مهما قال وفعل. لم يحسن قياس الزمن السياسي وتسبب بهزيمتنا جميعا، كما فعل أسلافه طيلة ١٠٠ عام من نقص الحكمة في ارض السواد. وأخشى انه حين يئس من النصر، صار يفرح بالهزيمة، وبدل ان يقوم بالتحكم بمستوى الخسارة كما يفعل العقلاء، فإنه صار يذهب في المسار الخاسر إلى منتهاه، لغايات عدمية وغريزية، واستمرارا في مساعي الضحك على العقول والقلوب، التي يعجز عن كسبها فيقوم بكسرها.
إن الأطراف الموجودة في السلطة اليوم، أمام فرصة ان يجلسوا مع ممثلي المناطق الساخنة، ليتذكروا كيف نجحنا قبل بضع سنوات فقط، في بناء ضمانات معقولة، وكيف نجحنا في سد الثغرات الكبيرة على جدار الوطن، وكيف تحول المسلحون إلى مشردين يتبرأ منهم الجميع. وليس المطلوب ان نتفق على كل شيء، بل استذكار ان في وسعنا التحكم بمستوى الخلاف والخسارات، كي لا ننقرض، لأننا اليوم أمة معرّضة إلى انقراض حضاري رهيب، لو بقي السفهاء يصنعون قرارات الحرب والسلام، ويكسرون ما تبقى من عقولنا وقلوبنا.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 3

  1. اكرم حبيب

    السيد الطائي المحترم السنا من اوصل السفهاء الى الحكم بخيارات طائفية وعرقية مقيتة وكنا لعبة سمجة وجاهلة بيد اجهزة المخابرات والرواسب الفكرية والطائفية الجاهلة العمياء ايقنت بالكتابة ساعة الغضب اصدق منها ساعة الهدوء اعطينا المرجعيات اكبر من دورها وحجمها ورص

  2. آريين آمد

    وبهذه المناسبة فان الامريكان يعتبرون مشروع الصحوات في العراق انجح مشروع استثماري بعد مشروع مارشال في اوروبا.... ان نظرية بترايوس في كسب القلوب والعقول تعتبر من انجح النظريات في مكافحة التمرد... لا ادري لماذا لم يتعلم القادة العراقيين من الامريكان في تغيير

  3. عهد الوارثين

    الاخ سرمد يستمع كثيرا لما يقول الامريكان السياسات الامريكية هى سياسات تاخذ الكثير من الوقت وبنفس الفشل اتذكر كيف ان الامريكان كانوا يعتقدون بان الناس الذين يقاوموهم بالسلام يرموهم بتهمة ايران تقف خلفهم كما رمو التشيع بالفارسية مغزى الكلام تنظيم القاعدة

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

هل ستعيد التشكيلة الوزارية الجديدة بناء التعليم العالي في العراق؟

العمود الثامن: يزن سميث وأعوانه

العمود الثامن: معركة كرسي رئيس الوزراء!!

العمود الثامن: عبد الوهاب الساعدي.. حكاية عراقية

السيد محمد رضا السيستاني؛ الأكبر حظاً بزعامة مرجعية النجف

العمود الثامن: موجات الجزائري المرتدة

 علي حسين اعترف بأنني كنت مترداً بتقديم الكاتب والروائي زهير الجزائري في الندوة التي خصصها له معرض العراق الدولي للكتاب ، وجدت صعوبة في تقديم كاتب تشعبت اهتماماته وهمومه ، تَّنقل من الصحافة...
علي حسين

قناديل: في انتظار كلمة أو إثنتيّن.. لا أكثر

 لطفية الدليمي ليلة الجمعة وليلة السبت على الأحد من الأسبوع الماضي عانيتُ واحدة من أسوأ ليالي حياتي. عانيت من سعالٍ جافٍ يأبى ان يتوقف لاصابتي بفايروس متحور . كنتُ مكتئبة وأشعرُ أنّ روحي...
لطفية الدليمي

قناطر: بعين العقل لا بأصبع الزناد

طالب عبد العزيز منذ عقدين ونصف والعراق لا يمتلك مقومات الدولة بمعناها الحقيقي، هو رموز دينية؛ بعضها مسلح، وتشكيلات حزبية بلا ايدولوجيات، ومقاولات سياسية، وحُزم قبلية، وجماعات عسكرية تنتصر للظالم، وشركات استحواذ تتسلط ......
طالب عبد العزيز

سوريا المتعددة: تجارب الأقليات من روج آفا إلى الجولاني

سعد سلوم في المقال السابق، رسمت صورة «مثلث المشرق» مسلطا الضوء على هشاشة الدولة السورية وضرورة إدارة التنوع، ويبدو أن ملف الأقليات في سوريا يظل الأكثر حساسية وتعقيدا. فبينما يمثل لبنان نموذجا مؤسسيا للطائفية...
سعد سلّوم
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram