قبل فترة طويلة من انحدار المكسيك في "حرب المخدرات" كانت العبارة نفسها قد اخترعت في بلد آخر. في الثمانينات انتقلت إلى المجتمع الكولومبي الصناعة السرية، التي تحول الكوكا إلى كوكائين وتشحنها شمالاً إلى المستهلكين في الولايات المتحدة. وقد كونت بارونات أق
قبل فترة طويلة من انحدار المكسيك في "حرب المخدرات" كانت العبارة نفسها قد اخترعت في بلد آخر. في الثمانينات انتقلت إلى المجتمع الكولومبي الصناعة السرية، التي تحول الكوكا إلى كوكائين وتشحنها شمالاً إلى المستهلكين في الولايات المتحدة. وقد كونت بارونات أقوياء للمخدرات أصبحوا أيقونات شريرة وأظهرت البلد ومؤسساته العامة وقد استهلكتهم تقريباً ثقافة العنف.
والرواية الجديدة لخوان فاسكويث العميقة المؤثرة ذات النظرة المحكمة تتخذ أحداثها من عواقب تلك الفترة إذ يكافح سكان العاصمة الكولومبية بوغوتا من أجل أن يعطوا مغزى للاضطراب والتشوش اللذين يغلفان حياتهم اليومية.
تقول أحدى الشخصيات وهي امرأة أمريكية تصل في الأيام القاسية من أواخر الستينات قبل أن يبدأ حقاً أسوأ الجنون:" لا أحد حذرني أن بوغوتا ستصبح بمثل هذه الحالة".
إن "أصوات الأشياء المتساقطة" هي الرواية الثانية لهذا الكاتب الكولومبي وهي تبدأ بالنغمة الكلاسيكية المنفصلة التي تشبه الحلم والتي تميز قصص أساتذة هذا النوع في أميركا اللاتينية بورخس وكورتثار. هنا الراوي هو أنطونيو يامارا بروفسور القانون التي يتردد على نوادي البليارد في مركز العاصمة بوغوتا. وهو يروي لنا حياته التي على وشك أن تتغير للأبد بمقابلة أحد الزبائن الوحيدين هناك.
"ريكاردو لافرد" رجل قصير هادئ يذهب إلى نادي البليارد لأنه يمنحه نوعاً من المجهولية ومغزى موجزاً للصحبة. وحين يشرع كل من يامارا ولافرد بالحديث يذيع التلفزيون على نحو مخيف تقريراً إخبارياً ينذر بمستقبلهما المشترك: جرى قتل سياسي محافظ بعد إطلاق الرصاص عليه.
يقول يامارا:" لذا كل لاعبي البليارد رثوا للجريمة بالاستسلام والذي كان حينئذ نوعاً من الخصوصية الوطنية وميراث أزماننا، ثم رجعنا إلى ألعابنا المحترمة".
يكتب فاسكويث بأن العنف الذي ينهب كولومبيا ليس مجرد وحشية " الطعون الرخيصة والرصاصات الطائشة وتسوية الحسابات بين التجار الثانويين" بل أيضاً العنف المرتكب من قبل الممثلين الذي "يكتبون بحروف كبيرة: الدولة، الكارتل، الجيش، الجبهة". مثل بقية سكان بوغوتا الآخرين يتعود يامارا حالاً على حوادث القتل ويصيبه القلق بسببها.
إن الرجال والنساء من جيل يامارا بالكاد يمكنهم تذكر الوقت الذي كانت فيه الحياة العامة للأمة لم تتأطر بالعنف. لقد رأوا الجرائم المنظمة وقنابل الجنود والمتمردين وبنايات المكاتب الممهدة وسقوط الطائرات التجارية واغتيال أحد المرشحين للرئاسة أثناء النقل الحي بالتلفزيون. وحين يلتقي الرجلان فإن أسوأ القتل يتوقف تاركاً الكولومبيين يشعرون أن الحياة على وشك أن تبدأ من جديد، كما يكتب فاسكويث. لكن بفضل صداقته الوجيزة مع "لافرد" المشؤوم (يجري إخبارنا في بداية الرواية بأن لافرد سوف يقتل) فإن بروفسور القانون اللامع يقع فريسة اضطراب كبير.
إن يامارا هو شاب وسيم من الأنتجلنتسيا الأمريكية اللاتينية وحياته محددة بالمتع المتاحة لمثل هؤلاء الرجال بضمنها العلاقة الطارئة مع أحد طلابه. لكن حين يشاهد قتل "لافرد" – ويصبح ضحية العبث بالبندقية نفسه- فإنه ينتقل إلى عالم من الاضطراب الموحش العاطفي، الرحلة التي يصفها فاسكويث بالنغمة التوافقية الكافكوية المناسبة.
يقول يامارا:" يبدو العالم بالنسبة لي فضاءً مغلقاً أو أن حياتي مطوقة بجدار..."
يكتشف يامارا بأن له قضية خطيرة خاصة من المرض التي تعاني منه كولومبيا بأجمعها: إجهاد ما بعد الصدمة. إن معرفة كونها حالة جماعية لا يساعده كثيراً. فقد أصبح أباً ليس بعد وقت طويل من إطلاق الرصاص عليه وبينما كان يربي طفلة ويرثي لصديق أصبح نوعاً من المجاز الحي لدوائر الحياة والموت. إن تصوير فاسكويث لمحنته وقطع علاقاته مع الناس المحبوبين له هو مقنع ومبتكر.
يخبره أحد المحللين النفسيين قائلاً: "المخاوف هي القلق الرئيس لسكان العاصمة بوغوتا من جيلي. أخبرني أن موقفي لم يكن غير مألوف إطلاقاً، لسوف تمر المشكلة أخيراً كما مرت بالنسبة للآخرين الذين زاروا عيادته".
إن رحلة البحث لاكتشاف معلومات أكثر عن السبب الذي قتل من أجله "لافرد" يجعل يامارا يتعمق أكثر في ماضي بلده. أحد الأمور الأولى التي نعلمها عن لافرد الغامض هو أنه كان ربان طائرة. وقصته اتخذت عدة مسارات ملتوية غير متوقعة بضمنها حادثي تحطم طائرة.
في النهاية، إن رواية " أصوات الأشياء المتساقطة" تتضمن ثيمات أكثر أثيرية وأكبر. ففاسكويث لا يكتب عن حاضر كولومبيا العنيف فحسب بل أيضاً يحدد الوسائل التي جعلت من الشك والمفاجأة – وعلاقة البلد بالولايات المتحدة- تساعد على تشكيل شخصية كولومبيا الوطنية.
في أحد المرات سافر "لافرد" بطائرات لها علاقة بتجارة المخدرات. وبينما يرخي يامارا قصته نعلم كيف أن عائلة "لافرد" كانت مرتبطة بمهرب مخدرات أميركي وبـ "الجنون القاسي" لفترة "هنتر أس. ثومبسون من تاريخ الولايات المتحدة حيث أصبح الكوكائين لأول مرة "مهدئاً".
إن الشهية الأميركية للكوكائين غيرت كولومبيا للأبد، وهي النقطة التي أوضحها فاسكويث ببراعة في هذه الرواية. في النهاية، تظهر شخصياته وكأنها تداعت من خلال التاريخ نفسه، ماض مأساوي وحاضر فيه ارتبط البلدان عن طريق طموحاتهما ورغباتهما- وبوساطة دهاليز الهواء اللامرئية التي تجري بينهما.