TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > في مديح الماء والملح والشمس المحرقة

في مديح الماء والملح والشمس المحرقة

نشر في: 20 أغسطس, 2013: 10:01 م

أكثر من 100 كلم يبعد بحر الفاو عن البصرة، وبمثل المسافة هذه يبعد بحر أم قصر وخور الزبير، لكن الرطوبة ورائحة ألواح السفن وزفرة السمك وصيحات البحارة هناك، تدخل بيوت المدينة كلها، كلما هبت الريح شرقية من جهة الخليج. وما يتضايق الناس منه من رطوبة وملوحة تخففه وفرة السمك ورخص الطيب من أنواعه التي تبلغ ذروتها في الأيام الأخيرة من شهر آب، حيث يصعب خزنه لفترات طويلة داخل سفن الصيادين. وما يعاني منه سكان المدينة من حر ورطوبة وملوحة أيضا يفرحُ به أهل أبي الخصيب الذين لا ينضج تمرهم البرحي إلا في الأيام الحارة الرطبة القائضة، ولا ترتفع أسعاره إلا والدنيا شمس متعامدة على الرؤوس.
لا تشبه البصرة مدينة عراقية أخرى، ولا يمكن مقارنتها بأية مدينة على الخليج، فلا بحر لأحد من العراقيين سوى الذي في البصرة، ولا مد ولا جزر إلا في أنهارها الألف، ولن يكون البرحيُّ المقلوع من بساتينهم، المغروس في غيرها رُطباً، تمراً، عسلاً هناك، مهما بالغ زارعوه في غير أرضهم بوصف حلاوته، لن يبلغوا نصف حلاوته التي هنا، مهما عَذُبَ الماءُ وطابت الريح وتفنن غارسوه في ريِّه ورعايته والاهتمام به، فالماء المالح والرطوبة والحرُّ والشمس المتعامدة سرٌّ من أسرار نضجه وطيبة طعمه، واكتمالُ أفلاكه التي جلبت لأهله حلاوة اللسان وطيب الَّنفّس، وسماحة الروح وزينة الأهاب.
قبل ثلاثة أعوام كنت في "الجنادرية" بالمملكة العربية السعودية ومن اشتراطات ضيافتهم هناك تقديم نوع من التمر بعد القهوة، تمرٌ اسمه (إخلاص) نوعٌ يشفُّ مثلما البلور، يُشبه في شكله البرحي البصري، طيّبٌ ومذاقه حلوٌ لكنهم –الأصدقاء- في السعودية يعترفون بأنه لا يبلغ نصف طعم البرحي الذي لدينا في البصرة. يقولون بان ماء شط العرب واحد من أسراره. والبصريون يشترون السمك المستورد من إيران ودول الخليج وغيرها، حين يشح السمك في بحرهم الضيق البعيد، ويشترون الطماطم والخيار والخضار مما تنتجه بساتين أهلينا في الحلة وكربلاء وسامراء لأنها تشح في بعض مواسمهم هنا، لكنهم يُجمعون على أن الذي يغرس ويزرع في أرضهم ويسقى من مائهم وتحرقه شمسهم لا تمكن مقارنته بأي مما يزرع بأرضين الناس. حتى الرطوبة وملوحة الماء والشمس المحرقة لها طعم أخروي، فردوسيٌّ، لديهم. هناك عشق للإذلال الذي لا تفتأ الطبيعة تجود به.
ثمة روائح كثيرة لا يستطيبها أحدٌ من غير البصريين، منها رائحة دهان السفن "والمهيلات" المصنوعة من الخشب، سفن صيد الأسماك ومهيلات نقل التمر والفاكهة والخضار ولمن مرَّ سائحاً على كورنيش شط العرب، عند نقطة التقاء نهر العشار بالشط العظيم، قرب سوق الجملة (العِشْر) المقابل لمبنى شركة التمور العراقية-هي أثر بعد عين الآن- في مثل الأيام هذه، سيتذكر الرائحة تلك، رائحة الخشب المطلي بزيت كبد الحوت، (الكوسج). كان أبي يسمّيه بـ(السَّيرج) لعله لا يتذكر معنى عربياً له. هناك سحر كامن في الرائحة تلك، هي مزيج من رائحة عفن خشب نديان، رطْب، قلبته طويلاً أكفُّ الأمواج، وهي مزيج من رائحة ملح فطير لما ينضج بعد، أصدافٌ وقواقعُ علقت بالبدن المغزلي الطافح، علقت به عبر تردادها في الأزمنة، عبر تحولها في المد والجزر، أشنات شواطئ فسيحة امتدت من رأس البيشة في "محنتيني" حتى جسر الخندق ونهر عمران، صعوداً إلى حيث يلتقي الدجلتان، رائحة زمن عبقري مضى، رائحة ملاحين مهرة جابوا البحار والأنهار، وتطلعوا عميقاً في الظلال. هذا بعض مما يتملكني إحساسه العميق، في ذروة صيف البصرة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ثلاثة منتخبات تحجز مقاعدها مبكراً في ربع نهائي كأس العرب 2025

القضاء يحسم 853 طعناً على نتائج الانتخابات

الداخلية: العراق بنى منظومة متطورة لمكافحة المخدرات

التخطيط تتجه لتوسيع الرقابة النوعية لتشمل الصادرات والواردات عالية المخاطر

قبول 1832 طالباً في المنح المجانية لكليات المجموعة الطبية

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الغرابي ومجزرة جسر الزيتون

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

العمود الثامن: نون النسوة تعانق الكتاب

كلاكيت: في مديح مهند حيال في مديح شارع حيفا

العمود الثامن: مطاردة "حرية التعبير"!!

 علي حسين أبحث في الأخبار ومجادلات الساسة عن موضوع لعدد اليوم ، وربما عن فكرة أقنع بها القارئ المحاصر بقطع الطرق والأرزاق، وبالعيش في مدن مثل حقول الألغام، شعارها التمييز، ومنهجها الإقصاء، ودليلها...
علي حسين

قناديل: حين استيقظ العراقي ولم يجد العالم

 لطفية الدليمي لعلّ بعض القرّاء مازالوا يذكرون أحد فصول كتاب اللغة الإنكليزية للصف السادس الإعدادي. تناول الفصل إيجازاً لقصّة كتبها (إج. جي. ويلز) في سبعينات القرن الماضي، عنوانها (النائم يستيقظ The Sleeper Awakes)....
لطفية الدليمي

قناطر: أنقذوا الثقافة من الأدعياء

طالب عبد العزيز منذ قرابة عقد من الزمن وأتحاد الادباء في البصرة يعاني من أزمة في اختيار مجلس إدارته، وهو بعلة لا يبدو التعافي منها قريباً، بسبب الاقتتال على المقاعد الخمسة الأولى التي تمثله....
طالب عبد العزيز

الانتخابات العراقية عام 2025: التحديات الداخلية في ظل ضغوط دولية متزايدة ..

كارول ماسالسكي ترجمة : عدوية الهلالي في يوم الثلاثاء، 11 تشرين الثاني 2025، أجرى العراق سادس انتخابات برلمانية ديمقراطية منذ سقوط صدام حسين عام 2003. وقد حققت القائمة الشيعية «ائتلاف الإعمار والتنمية»، بقيادة رئيس...
كارول ماسالسكي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram