ناظم عودةيعتمد الغذامي في ما يقرره بشأن الحداثة العربية على (الشعر) بوصفه وثيقة تاريخية وفكرية صالحة لتكوين صورة حكم نقدي قيمي على مرحلة ثقافية وفكرية ذات امتداد زماني وذات تنوع في شكل الخطاب وفي مضمونه. ولم يكن ذلك ممكناً من الناحية المنهجية، لأن الشعر لا يصحّ أن يكون وثيقة علي التاريخ بل التاريخ يصحّ أن يكون وثيقة على الشعر.
في مستهل كتابه: النقد الثقافي، يتساءل الدكتور عبدالله الغذامي: هل الحداثة العربية حداثة رجعية؟(1). وبعد أن يمضي بالبحث قدماً يقرر: ليس الجمالي إلا غطاء تتقنع به الأنساق لتمرر هيمنتها على الذائقة العامة متوسلة بحراسها الفحول وأدونيس من أبرزهم ولا شك(2). وما يُستصفي من فرضية الغذامي في النقد الثقافي هو أنّ ثمة أنساقاً ثقافية حاملة عيوباً تحتال بوسيلة ما حتى تتحجب بها وتخفي عيوبها، وليس (الجمالي) سوى أحد تلك الأقنعة الزائفة التي تتقنع بها الأنساق بغية الإخفاء، وبمقتضي هذا المستصفي سيعدّ الغذامي كلّ دعاوي أدونيس في الحداثة... خطاباً لفظياً لا يؤدي إلا الى مزيد من النسقية الرجعية (3) ويتزامن ذلك كله ومحاولة الغذامي أن يكشف الخلل في الخطاب النقدي، فيقرر أن ما يتراءي لنا جمالياً وحداثياً في مقياس الدرس الأدبي هو رجعي ونسقي في مقياس النقد الثقافي (4) وبعد ذلك سيكون الشعر هو المسؤول عن شعرنة الذات وشعرنة القيم (5). وبعد هذا التقرير لا يمكن النظر الى أفكار الدكتور عبد الله الغذامي بشأن أدونيس وبشأن الحداثة على أنها أفكار نقدية محضة لمشروع الحداثة العربية في الشعر، وإنما الأمر يتعلق بقضية مزدوجة يسعي الغذامي الى بسطها من خلال ما طرحه من فرضيات تتعلق بالنقد الأدبي بوصفه منهجاً، وبالحداثة بوصفها مشروعاً للتجديد. والقضية متلازمة في عرفه وفي دأبه الأخير لإعادة النظر في الأصول الفكرية التي توجه عمل المنهج في النقد بعامة، وإذا ما أردنا أن نعرف ما يختبئ ثقافياً خلف إعلان الغذامي رجعية الحداثة العربية ورجعية أدونيس ونزار قباني وغيرهما من الشعراء ينبغي علىنا أن نلمّ بالسيرة النقدية للغذامي وبالتحولات التي طرأت على كتابته النقدية منذ منتصف الثمانينيات حتي مشروعه الأخير الذي أطلق علىه: النقد الثقافي، وتلك مسألة اخرى نناقشها لاحقاً في إطار الحديث عن منهج الغذامي في النقد الثقافي. إنّ الاقتباسات الأربعة الآنفة يمكن إجمالها في أربع قضايا أساسية تتفرع الى قضايا اخرى: 1 ــ رجعية الحداثة العربية. 2 ــ الجمالي بوصفه قناعاً نسقياً. 3 ــ لفظية الحداثة الأدونيسية ورجعيتها النسقية. 4 ــ شعرنة الذات وشعرنة القيم. يعتمد الغذامي في ما يقرره بشأن الحداثة العربية على (الشعر) بوصفه وثيقة تاريخية وفكرية صالحة لتكوين صورة حكم نقدي قيمي على مرحلة ثقافية وفكرية ذات امتداد زماني وذات تنوع في شكل الخطاب وفي مضمونه. ولم يكن ذلك ممكناً من الناحية المنهجية، لأن الشعر لا يصحّ أن يكون وثيقة على التاريخ بل التاريخ يصحّ أن يكون وثيقة على الشعر. وبشأن هذا التساؤل المركزي الأول الذي ما يلبث الغذامي يردده في أكثر من موضع في كتاباته النقدية، يمكن القول إنّ مشروع الحداثة العربية ينطوي على أربعة جوانب: ــ الأول، فكري، يتعلق بمنظومة الأفكار الجديدة التي تتمتع بخواص التفرد والتمرد والتجاوز والغرابة وزحزحة منطق اليقينيات، على النحو الذي حدث مع متنوري النهضة العربية حينما واجهوا أفكار دارون واوغست كونت وديكارت وسبينوزا وماركس ونيتشه وسيمون وآخرين، وكان متنورو النهضة يهدفون الى أن يجعلوا العقل يتطور بتطور المعقولات والمحسوسات، ولا ريب في أن هؤلاء المفكرين يتفقون في شيء أساسي وهو مناهضة الركود العقلي في النظر الى الأشياء وفي تفسيرها، ومناهضة منطق التقليد. وانتقلت هذه المناهضة الى المفكرين والإصلاحيين العرب، فقد التفت الشيخ محمد عبدة لفتة نابهة حينما قارن بين عالم الإسلام (الشرق) وعالم المسيحية (الغرب) مقارنة تبين حركة العقل الشرقي والعقل الغربي في التطورات المادية والتاريخية التي حدثت منذ ظهور الإسلام، فهو يري، مثلاً، أنّ الديانة المسيحية بنيت على المسالمة والمياسرة في كل شيء (6) أما الديانة الإسلامية فقد وضع أساسها على طلب الغلبة والشوكة والافتتاح والعدة ورفض كل قانون يخالف شريعتها ونبذ كل سلطة لا يكون القائم بها صاحب الولاية على تنفيذ أحكامها، والناظر في أصول هذه الديانة ومن يقرأ سورة من كتابها المنزل يحكم حكماً لا ريبة فيه بأن المعتقدين بها لا بد أن يكونوا أول ملة حربية في العالم، وأن يسبقوا جميع الملل الى اختراع الآلات القاتلة وإتقان العلوم العسكرية.. (7) لكن الأمر معكوس كما يري الشيخ، فالأمم المسالمة تحولت الى أمم حربية أنشأت صناعات راقية واتجهت الى استعمار الشعوب، والأمم الحربية التي كانت راقية الصناعة (وهو يضرب مثلاً بمحمود الغزنوي الذي استعمل المدافع في حربه ضد الهند وأدخل الىها الإسلام في الوقت الذي كان الغرب لا يعرف شيئاً عن صناعة المدافع) أصبحت لا تعرف شيئاً عنها في العصر الحديث،(8) ولا يترك الشيخ محمد عبدة ذلك دون ذكر للمسببات، فهو يرد تلك الصحوة الصناعية الى الصراع الذي دار بين الأباطرة الرومان والمسيحية فانفسح لهم مجال الفكر... وكانت براعتهم في الفن العسكري واختراع آلات الحرب
الغذامي وأدونيس و صراع الحداثة
نشر في: 6 نوفمبر, 2009: 05:21 م