TOP

جريدة المدى > عام > هشاشة الشعبي.. وثقافة الوجبات السريعة

هشاشة الشعبي.. وثقافة الوجبات السريعة

نشر في: 23 أغسطس, 2013: 10:01 م

ليس الحديث عن ( سيادة) الشعبي البسيط والساذج أحيانا في ثقافتنا اليومية وفي طبخاتنا الإعلامية وفي أنماط سلوكنا الاستعراضي الفضائي والأرضي ،هو حديث عن مجموعة من المهيمنات الضاغطة ذات النزعة الإشباعية التي تسعى لتكريس الموجود والمتداول المستهلك، بقدر ما

ليس الحديث عن ( سيادة) الشعبي البسيط والساذج أحيانا في ثقافتنا اليومية وفي طبخاتنا الإعلامية وفي أنماط سلوكنا الاستعراضي الفضائي والأرضي ،هو حديث عن مجموعة من المهيمنات الضاغطة ذات النزعة الإشباعية التي تسعى لتكريس الموجود والمتداول المستهلك، بقدر ما هي تعبير عن غياب البرنامج الثقافي الحقيقي، وهشاشة الأرضية الثقافية التي يمكن ان تستوعب معطيات هذا الثقافي وأسئلته، وهو ما يحتاج إلى المراجعة الحقيقية، فضلا عن كونه مؤشرا على افتراض البحث عن أسباب وموجهات عميقة ومؤثرة، تدخل في إنتاج خطابنا الثقافي ووعينا ودرسنا وأنماط إنتاجنا الثقافي بشكل عام، مثلما تعكس أيضا مؤشرات على الإبانة الواضحة في بروز العديد من الإشكالات التي أسهمت في انتاج الكثير من مظاهرالفشل البنيوي، فإنتاج (البنية الثقافية ) تفرض هيمناتها وخطاباتها عبر نظام التعليم العام والخاص والتعليم الجامعي فضلا عن أن شرعنة وجودها في المؤسسات الثقافية الحاضنة للحراك الثقافي ومكونات التنمية الثقافية تبدو واضحة من خلال فعاليات هذه البنية.
المراكز الثقافية على مستوى صناعة البرنامج والمشروع غائبة في مشهدنا الثقافي والأكاديمي، وغير فاعلة للأسف في إنتاج محركات لإدامة وتنمية (البنية الثقافية) بما فيها المؤسسات الرسمية والمؤسسات الأكاديمية، فضلا عن العطالة المثيرة للجدل لما يسمى بأشكال وأنماط الثقافات المدنية، وغياب أية رؤية واضحة لدور مثل هذه المؤسسات، لا من قبل الدولة ولا من قبل المؤسسات ذاتها. 
هذه المعطيات عن فكرة العطالة الثقافية المسؤولية، وهيمنة الثقافات الشعوبية التعويضية والإشباعية ليست وليدة الفراغ، بل هي انعكاس لمجموعة من المعطيات الداخلية، ولعل ابرزها كامن في التشوه الكبير في النظام التعليمي والنظام التربوي، والنظام التنموي، إذ أن توصيف هذه الأنظمة لا يتعدى أن يكون صورا غائمة لأنظمة تلقينية في المشهد الثقافي، ومضطربة في المشهد التعليمي، بما فيه التعليم الجامعي، فضلا عن النظرة الذرائعية في تداول المعلومات والأفكار العمومية بما فيها النظر إلى التاريخ والمجتمع والدين والجسد والثقافة والعلم .. وهذا ما وفّر لمراكز أخرى مجالا ضاغطا لأن تمارس حضورها و(سيادتها) في الفضاء الثقافي والتجاوز على المساحات الخضر للثقافات المعرفية والجمالية الصانعة للوعي من خلال الدفع باتجاه صناعة ثقافة طوارئ !! وصناعة ثقافة( سد الذرائع) وتمشية أعمال!! وتقديم وصفات عالية الدسومة من وجبات الأكلات السريعة ،توهما بسدّ غائلة الجوع والسيطرة عن أوهام القلق التي يصنعها الغياب دائما .
هذه الاستعمالات الثقافية غير واضحة الملامح أولاً !! ولا يمكنها أن تصنع وعيا منتجا وحيا يواجه مهيمنات الإعلام المضادة التي تبث لنا ملايين الرسائل الإعلامية الموجهة إلى جمهور مشوش ثانيا، فضلا عن كونها تفتقر إلى التنظيم والبرمجة الواضحة التي تستنزف الكثير من الميزانيات، مثلما تعمد إلى توظيف أنماط مهنية وثقافية وإعلامية عفا عليها الدهر وأصبحت من تركات المتحف الثقافي ثالثا ..
كل هذا يدفعنا إلى إعادة قراءة قواعد إنتاج(البنية الثقافية) من جديد من خلال مقاربة مشكلات الإنتاج الثقافي والبحث عن آليات لتأمين مصادر هذا الإنتاج والتوافر على ميكانزمات أكثر جدّة وأكثر مهنية من خلال الوعي المؤسسي والتنظيم بالصناعة الثقافية، بما فيها صناعة الأدب الشعبي، والعمل على إنشاء مراكز متقدمة للبحوث القادرة على إنتاج وتداول المعلومات والأفكار والبضاعة الثقافية وفي السعي إلى خلق وعي عام فاعل ورأي عام مؤثر وذائقات تنمو وتؤثر في تلمس حيوية الجمال والمعرفة وقيم التقدم والمستقبل، وطبعا لا يحدث هذا بالطريقة التي تقدم بها قنواتنا الفضائية العراقية في الداخل والخارج جرعاتها الفقيرة والمحدودة الأثر، إذ أن صناعة الخطاب الإعلامي باتت الآن من أخطر الصناعات، إذ هي تتعاطى مع صناعة الوعي، ومع استعمالات الإنسان للصورة والمعلومة ووسائل الاتصال الاجتماعي والخارج عن السيطرة، إذ ان ما نشاهده اليوم في العديد من فعالياتنا الإعلامية يعكس واقعا تسوده العشوائية والسذاجة، وسوء التخطيط وهيمنة الحس الشعبي الشاحب على أغلب فقراتها والبعيد عن روح (الأدب الشعبي) وحيويته وأثره كما كنا نقرأه ونسمعه في فضاءات طالما أشبعت أرواحنا أملا وتوهجا، وتماهيا مع برامج استعراضية وعائمة تخلو من الوعي والرؤية الواضحة والحرفنة والمهنية وتعمد إلى توظيف الفطرة والمباشرة التي كثيرا ما تجعلنا أمام صور باهتة وأنماط من البرامج المكررة خاصة برامج المنوعات الفاقدة للطعم واللون والرائحة وكأن القائمين عليها لم يعرفوا أسرار العمل الإعلامي وطبخاته المهنية المحركة والمهيجة والدافعة للإبداع !! إنهم اكتفوا فقط بتقديم وجبات إعلامية/ ثقافية من نوع الأكلات السريعة لكي نأكلها ونحن ماشين إلى نعاسنا.
إن هذا الحديث ليس ضد أحد ! لكنه ضرورة لكي نعيد للشعبي هيبته وروحه الحية ونخرجه من خانة الاستعراضي الذي يمارس أدوارا بحاجة إلى إعادة ترتيب أوراقها بمسؤولية ودراية وموضوعية بما يناسب حاجتنا الآن إلى ثقافات نوعية تعزز حركتنا باتجاه صناعة الدولة المثقفة العادلة التي تبادل العالم منافعة الثقافية والحضارية ..

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

موسيقى الاحد: الدرّ النقيّ في الفنّ الموسيقي

في مديح الكُتب المملة

جنون الحب في هوليوود مارلين مونرو وآرثر ميلر أسرار الحب والصراع

هاتف الجنابي: لا أميل إلى النصوص الطلسمية والمنمقة المصطنعة الفارغة

كوجيتو مساءلة الطغاة

مقالات ذات صلة

علم القصة: الذكاء السردي
عام

علم القصة: الذكاء السردي

آنغوس فليتشرترجمة: لطفيّة الدليميالقسم الاولالقصّة Storyالقصّة وسيلةٌ لمناقلة الافكار وليس لإنتاجها. نعم بالتأكيد، للقصّة إستطاعةٌ على إختراع البُرهات الفنتازية (الغرائبية)، غير أنّ هذه الاستطاعة لا تمنحها القدرة على تخليق ذكاء حقيقي. الذكاء الحقيقي موسومٌ...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram