TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > الانتحار الثقافيّ!

الانتحار الثقافيّ!

نشر في: 23 أغسطس, 2013: 10:01 م

كتبتُ سطرين تحت هذا العنوان في أحد وسائط التواصل الاجتماعيّ، وأودّ العودة إلى الموضوع بالقليل من التمعّن والهدوء.
في كل مرة يجري الحديث عن المثقفين، ينبري من يقول بضرورة تحديد مصطلح المثقف. وفي كل مرة يقع استهجان "اعتزال" المثقفين عن المشهد العام، وصمتهم أثناء اللحظات الكبرى في حياة الأمم والشعوب، يردّ المعنيّون بتقديم التبريرات، وأحياناً الصمت المطبق الذي هو تعبير آخر بليغ عن "الاعتزال" حتى انجلاء الموقف.
في الحالات التي يقول فيها مثقف رأياً مخالفاً للإجماع، أو يمسّ ما تعــده ثقافة العرب من الثوابت والتابوات السياسية والرموز الثقافية، فلسوف يُقال له بأنه يُمارِس انتحاراً ثقافياً. نُصحتْ شاعرة وكاتبة لبنانية، صباح زوين، بأنها "تنتحر ثقافياً"، حرفياً، لأنها أعلنت للملأ عدم اتفاقها مع منهج وشاعرية الشاعرين اللبنانيين أنسي الحاج وعباس بيضون. لو توقف المرء أمام هذه النصيحة، بقليل من البصيرة، فلسوف يرى فيها أمراً مخصوصاً بثقافتنا العربية الراهنة التي تطالب، في شؤون أخرى من الطبيعة نفسها، بالمداهنة بالأحرى والانكفاء وركوب الموجة.
عندما يتعلق الأمر من جهة أخرى بالمنافع المعنوية والمادية التي توفّرها مؤسسات رأس المال العربيّ الثقافية، فلسوف يكون بديهياً أن يفكّر المنتفعون بتجنب هذا الانتحار الثقافيّ المفترَض، وسنتفق مع هذا الموقف العمليّ، البراغماتيكيّ الذي سنقتنع نظريا بأنه مُبرَّر ومقبول وبصير، لكن عندما لا يودّ هذا المثقف، غير المُنتحِر بعد، وتحت ذريعة الحكمة والتأني والعقل الواسع، إعلان جرائم القتل والإرهاب والواقفين وراءها، ويصمت عن أهوال الإسلام السياسيّ عابر القارات، وإرهاب دول مجاورة وشقيقة، ويغطي للقاعدة والنصرة جرائمهما، ويشيح بوجهه عن فساد المحاصصات وخلل الحكومة التي لا تستطيع توفير الأمن والكهرباء، ويتعاطى مفاهيم ومصطلحات رأس المال الثقافيّ العربيّ مداورَة، ويبرر ضمناً وبدهاء جرائره، ويمدّ الجسور مع صحفييه وإعلامه وكتّابه، فإن في الأمر انتحاراً من نوع آخر، لأن هذه المنافع المادية والمعنوية والمجد المأمول ستصير كلها رهينةً بـ "صناعة الإرهاب" و"فساد الحكّام" و"جرائم الطائفية" و"سياسة قطـر" وغيرها، هذا هو، في الحقيقة، على المدى القريب "الانتحار الثقافيّ" الأكيد المؤجَّل.
لا يرغب بعضنا بمقارَبة ثقافتنا بثقافات العالم ومثقفيه في حالات مماثلة، ونجد في ذلك هروباً للأمام، إن أي إجماع في العالم الأوروبيّ، وأية سطوة لرأس المال الخاص الذي يموّل كبريات الصحف والفضائيات ودور النشر، لم تستطع أن تهدّد المثقفين بأنهم يمارسون "انتحاراً ثقافياً" إذا ما اتجهوا وجهات معاكسة للرأي السائد أو إذا لم يتخذوا المواقف التي تريدها حصرياً سياسات رؤوس الأموال والحكومات.
في أوروبا وأمريكا لن يُستطاع منع كتبهم من النشر، ولا قصائدهم من الظهور، ولا مقالاتهم من القراءة، لكن إذا حدث هذا المنع في العالم العربيّ فلأن شريحة كبيرة من المثقفين تخضع بإرادتها لسياسةٍ واضحة راسخة، الترغيب في الحدٍّ منها، والترهيب في الحدِّ الآخر، تفكيكُ هذه الشبكة متداخِلة الخيوط ضرورةٌ كما يبدو، بل مهمة من المهمات الحاسمة لأي ثقافة جديرة باسمها.
لا يمكن وضع جميع المثقفين في سلة واحدة، فالظلال واللُوَيْنات والأوضاع الشخصية تؤخذ بنظر الحسبان، إلا في حالة واحدة في ظني: عندما تكون أرواح البشر الأبرياء ومصائر البلدان والخلان على محكٍ وجوديّ: قتل الناس أو التحريض الفاقع على القتل.
في هذه الحالة يكون "الانتحار الثقافي" خيراً من غيره، وأعلن هنا بأنني أوّل المنتحرين.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الغرابي ومجزرة جسر الزيتون

العمود الثامن: نون النسوة تعانق الكتاب

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

العمود الثامن: مسيرات ومليارات!!

ثقافة إعاقة الحرية والديمقراطية عربيا

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

 علي حسين في مثل هذه الأيام، وبالتحديد في الثاني من كانون الاول عام 1971، أعلن الشيخ زايد عن انبثاق اتحاد الامارات العربية، وعندما جلس الرجل البالغ آنذاك خمسين عاماً على كرسي رئاسة الدولة،...
علي حسين

كلاكيت: في مديح مهند حيال في مديح شارع حيفا

 علاء المفرجي ليست موهبة العمل في السينما وتحديدا الإخراج، عبئا يحمله مهند حيال، علّه يجد طريقه للشهرة أو على الأقل للبروز في هذا العالم، بل هي صنيعة شغف، تسندها تجربة حياتية ومعرفية تتصاعد...
علاء المفرجي

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

رشيد الخيّون تظاهر رجال دين بصريون، عمائم سود وبيض، ضد إقامة حفلات غنائيَّة بالبصرة، على أنها مدينة شبه مقدسة، شأنها شأن مدينتي النَّجف وكربلاء، فهي بالنسبة لهم تُعد مكاناً علوياً، لِما حدث فيها من...
رشيد الخيون

الانتخابات.. بين صراع النفوذ، وعودة السياسة القديمة

عصام الياسري الانتخابات البرلمانية في العراق (11 نوفمبر 2025) جرت في ظل بيئة أمنية نسبيا هادئة لكنها مشحونة سياسيا: قوائم السلطة التقليدية حافظت على نفوذها، وبرزت ادعاءات واسعة النطاق عن شراء أصوات وتلاعبات إدارية،...
عصام الياسري
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram