لم تكن الكآبة وحدها، ولا الغضب فقط، هما المُسيطران على غوطتي دمشق فجر الخميس، كان الموت يتجوّل بحُريّة مع نسمات الهواء، ليُفاجئ النائمين على خوف، ويترك خلفه أكثر من ألف قتيل.
كانت صورهم مُرعبة، وإن لم تُثر مشاعر المُجتمع الدولي المُنشغل بمصالحه، والبحث عن فوائد ما يجري في بلاد الشام، فحرب النظام ضد شعبه قضت على "حماة الديار"، وأنهت قُدراتهم العسكريّة، ومزّقت النسيج الإجتماعي السوري، ورفعت حدّة التوترات الطائفيّة، ذلك أن طائفيّة النظام المُتخفية بثوب الممانعة والعلمانية، تواجه طائفيةً ظاهرةً وتطرفاً مُرعباً، ظهرت ملامحه في الطرف الآخر، ما يعني جرّ قوىً مطلوب إنهاكها، على مسرح السياسة الإقليميّة والدوليّة، كحزب الله من جهة، والتنظيمات التكفيريّة كالقاعدة من الجهة الأخرى، والنتيجة أنّ كُلّ الأعداء يضربون كلّ الأعداء بعيداً عن المس بإسرائيل وأمنها، وعن أيّ تهديد لآبار النفط وممراته.
تجلّى الرياء العالمي في "صدمة" بان كيمون، من التقارير حول الاستخدام "المزعوم" للسلاح الكيماوي، و"قلق" البيت الأبيض، صاحب خُزعبلات تجاوز الخطوط الحمراء، مع عدم تأكده من حصول هجوم كيماوي، واعتبار موسكو هذه المجزرة مجرد "ادعاءات"، تُمثّل عملاً استفزازياً مخططاً له مسبقاً، وطلبت باريس ولندن عقد اجتماع طارئ لمجلس الامن، وانتظار رئيس الفريق الدولي لمحققي الأسلحة الكيماوية، لقرار أممي لمتابعة الحدث المأساوي، البعيد عنه سفر عشر دقائق، مع أزمات السير الناجمة عن احتفالات الشبيحة بالنصر على أطفال الغوطتين.
واكتفى العُربان سواءٌ في دول الربيع أو الخريف، بالدُعاء للقتلى بالرحمة والغفران، ومُطالبة المجتمع الدولي بمُمارسة مسؤولياته الأخلاقية، واكتفت جامعتهم العربية بالتنديد، أمّا الجماهير"الغفورة" فلزمت فضيلة الصمت، وظلّت تُحدّق ببلاهة في صور الشهداء ومدافنهم الجماعيّة.
فيما يمكن وصفه بالمباراة الوحشية، اتّهمت المعارضة كما هو متوقع النظام، وهو بدوره أنكر اللجوء للأسلحة الكيماوية، وشدّد على استمرار عملياته العسكريّة التقليديّة ضدّ التكفيريين، وعدد انتصاراته عليهم، وصدحت أبواقه في الفضائيات بتهافت مثير للأسى، مُنكرين المجزرة، وإذ يبدو هذا الإنكار متوافقاً مع عقلية النظام السوري، فإن الاحتمالين الباقيين حول هوية مُرتكِب المجزرة، هما المعارضة أو الشيطان، وهنا تبدو المُقارنة واردةً بين حلبجة الكردية، التي قصفها صدام بالكيماوي، ولم يُواجه بغضب دولي يتناسب مع حجم جريمته، وبين غوطة دمشق، التي أُبيد فيها أطفال عرب بأسلحة عربية كيماوية، فنظام الأسد اليوم هو الطفل المُدلل لدولة كبرى، تماماً مثلما كان عليه حال صدام.
واليوم مع الاختلاط البذيء للنووي الإيراني بكيماوي الغوطة، واشتداد حمأة الحرب الطائفية، وضياع نداءات معارضي الأسد، بين ضعف سياسات واشنطن المتخاذلة، وتهافت موسكو على جني المكاسب، على حساب الدم السوري، نترك أحاديث السياسة، لنتوقّف عند الأحاسيس الإنسانية المفقودة تجاه مأساة السوريين، حيث لم يعد حتّى الدم قادراً على منح اللون لكرز الغوطة، وحيث يظل الياسمين فوّاحاً، لأنّ غاز السارين بدون رائحة، وحيث تصطف جثامين الأطفال القتلى، وسط إنكار النظام وتشكيك العالم، وغياب أيّ رد فعل عربي حقيقي، واستعادة حلبجة الكردية تحت أشجار الغوطتين.
بالكيماوي يا بشار، بالكيماوي يا جربا، ليس مُهماً الفاعل، المُهم أنّ دمشق نُكبت بأطفالها، والعالم يتفرج، وحتى لو اعترف بشار باللجوء إلى أسلحته الكيماوية، فإن العالم لن يعتبر ذلك تجاوزاً للخط الأحمر، وسيتبادل الشبّيحة أنخاب النصر، ولكن على من؟ سؤال لاإجابة عليه.
حلبجه والغوطة.. العقلية واحدة
[post-views]
نشر في: 23 أغسطس, 2013: 10:01 م