حين قررتُ قبل أكثر من شهر زيارةَ بودابَست، لأول مرة، حجزتُ في فندق عائم، متواضع التكلفة، على ضفة الدانوب. إغواء مجاورة الماء، والطفو عليه لا يُقاوم. ولكن نذير طوفان الدانوب، الذي تابعتُ أخباره، أربك مسعاي فأبطلتُ الحجز. لم تعد زرقةُ دانوب فالس "شتراوس"، تشي بالعمق وحده. فالأزرقُ لون مخاتل، حين يبلغ العمقُ فيه قراراً لا رجعةَ منه. وبعد هدأة النذير، عدتُ إلى الحجز مبتعداً عن ضفة الماء إلى قلب المدينة. كان "الهوستِل" عبارة عن شقة بأربع غرف، يتقاسمها شبانٌ بحقائب مشنوطة على الظهر، لا مُستقر لهم داخل خطط السفر. غرفتي إلى جوار المطبخ، الذي أودعتُ في برّاده كيسين محشوين بالخُضار والفاكهة، فقد قررتُ أن أصبح نباتياً، على أن لا أمتنع عن السمك بين الحين والحين.
بعد يومين من الإقامة صرتُ إلى يقين بأن هذه المدينة، التي أقمتُ في الحي اليهودي منها (قديم ورخيص)، هي أجمل، وأنظف، وأرخص مدينة أوروبية عرفتها حتى اليوم. صفةُ الجمال تتدفق إليك حيثُ تنظر. وصفةُ النظافة حيثُ تخطو وتجلس. وصفةُ تواضع التكلفة حيث تأكل وتشرب، ولكن بشيء قليل من الاحتراس.
كانت طائرتي من "هيثرو" لندن غير مباشرة. تحط في مدينة "دوزيلدورف" الألمانية، وهناك غفلتُ عن وقت إقلاع طائرتي إلى بودابست بسبب اعتمادي على توقيت لندن (هل الغفلة أول بشائر النزعة النباتية؟). وفي الحال دبّر لي مكتبُ الطيران رحلةً بديلة غير مباشرة هي الأخرى. وفي صباح اليوم التالي غادرت الهوستِل إلى متحف الفنون الجميلة، لأرى، إلى جانب مقتنيات المتحف، معرضاً موسعاً للفنان النمساوي "إيغون شيله" Schiele.
لعلها المرة الأولى التي ألتقي فيها هذا الكم (70 عملاً) من لوحات هذا الفنان غير السوي. معظم اللوحات مائية بألوان شائبة غير براقة، تُحاصرها خطوط بالغة الحدة (مُعذَّبة)، لأجساد شبان ملتوية (هم شخص شيله ذاته) وأجساد فتيات لا تتمتع بعافية. وهزالهم وشحوبهم ينضح بشهوانية عالية، حتى لتبدو تنطلق من مرض جنسي مُزمن. وهذه الخصائص جعلت من شيله أحد أكبر رواد "التعبيرية". ولذلك كان هذه المعرض حريصاً على تقديم عدد من فناني التعبيرية المعاصرين من أمثال كوكوشكا، غوترسلو، بوهلر، جيرستل وآخرين.
حياة شيلة (1890-1918) كانت كذلك. ومن قرأ رواية "امتداح الخالة" لماريو بارغس يوسا (مترجمة للعربية) لا بد يتذكر تعلقَ الصبي بلوحات هذا الفنان، وما تنطوي عليه الرواية في جملتها من مسحوقِ همسٍ بالغ الشهوانية. كانت حياةُ شيله الفنية تبدأ من سنّ الخامسة عشر. صحب الفنان كلِمنت وتعلم منه. ولكنه انفرد بصوت خاص، يطلع من كيان حي، حقيقي وصادق. تنقّل في مدن نمساوية عدة، وارتبط بعلاقات نسوية كانت تثير الشبهة. فهو ميال إلى فتيات قاصرات، يضع لهن عشرات التخطيطات. وحين اكتشف القضاء ذلك سجنه ثلاثة ايام وأحرق العشرات من رسومه.
بعد المتحف ومعرض شيله التقيت أصدقاء، قطعتُ معهم أرصفة عديدة. فدبّ فيّ ألمُ مفاصلَ وعظامٍ قارب الحمى، عقاباً على وقوف ومشي تجاوزا الساعات الخمس أو الست. في الأيام التالية خبرتُ أقدم ميترو أنفاق في أوربا (أُسس عام 1896)، هذا إذا ما استثنينا ميترو لندن الذي سبقه. كنت مأسوراً بعمارة المدينة التي تعود بك دائماً إلى الماضي. مأسوراً بنهر الدانوب الواسع، ومشهد القلعة على ضفة "بودا"، والبرلمان على ضفة "بَست"، وبالجزيرة "مارغريت" التي تتوسط الضفتين (وللعلم فللدانوب جزر ست أخرى). بالسوق المركزي الكبير ذي الواجهة القوطية الرائعة، برائحة أزهار الخُزامى، مجففةً عيداناً أو معبأةً في أكياس صغيرة. وألقيتُ نظرةً من بعيد على ثالث أضخم مبنى برلمان في العالم، وثاني أضخم معبد يهودي. ولكني لم أختبر ينابيع المدينة الحارة في حماماتها الشهيرة، مؤملاً النفس في زيارة أخرى قريبة.
في الليل، وبين الثانية عشر والواحدة يضج الشارعُ، الذي تُطل عليه الغرفةُ مشرعةَ النوافذ، بتهريجِ شبانٍ وشاباتٍ لعلهم طلبة وسواح، أفزعهم جمالُ الليل ودبيبُ الخمرة. قال رفيق سفري: أيصعب عليك النوم؟ قلت: لا. لقد اعتدتُ في لندن تهريجَ الطيور أول كل فجر.