TOP

جريدة المدى > عام > كافافيس يعيش في بيروت..!؟

كافافيس يعيش في بيروت..!؟

نشر في: 26 أغسطس, 2013: 10:01 م

نعيم عبد مهلهلقسطنطين كافافيس الشاعر اليوناني الأصل الإسكندري الحياة والممات يمثل شعره اليوم من أجمل رؤى الحس والشعور بغرابة اللذة ، وهو يُعدْ ظاهرة شعرية فذة من ظواهر القرن العشرين لما يمثله شعره من قدرة عالية في رسم غيبيات الأزمنة في صمت عزلة عاشها

نعيم عبد مهلهل
قسطنطين كافافيس الشاعر اليوناني الأصل الإسكندري الحياة والممات يمثل شعره اليوم من أجمل رؤى الحس والشعور بغرابة اللذة ، وهو يُعدْ ظاهرة شعرية فذة من ظواهر القرن العشرين لما يمثله شعره من قدرة عالية في رسم غيبيات الأزمنة في صمت عزلة عاشها وعشقها ليجلب لذاكرته قارة من ميثولوجيا التوحد والتعري مع فكرة أن تكون إغريقيا مشبعا بقدرية التبدل لقرن الآلة والحروب العظيمة.

(لأن المعروف عنكَ من التأريخ ليس سوى القليل يمكنني أن أصوغك بحرية أكبر في ذهني)
كافافيس

القرن الذي قال عنه صاحب ثلاثية الطريق إلى الإسكندرية ( لورنس داريل ) وهو يصف حارس فنار الإسكندرية كافافيس : لقد مارس بعزلته الحسية نمطا من تعبير ذات خفي عن المتغير الهائل ليبتعد عنه ببديل أزمنة لا يمكن فقدان لذتها بسهولة .
كانت الإسكندرية المدينة البحرية التي مثلت في قدمها العريق صورة مجد قياصرة الأمس وأحلام زوايا ومرايا فيثاغورس ، الملاذ الآمن لرؤى صنع الشاعر منها قصائد البهجة العميقة في أدراك منه أن هذه المدينة بقايا صدى أمسِ يونانيته المجيدة وأن الأثر ما زال يشغل مدرجات ملعبها الرئيس بأسطرة متعة الجمهور والقيصر وسيناتورات مجلس الشيوخ ،  ومازال أنف كيلوباترا المعقوف قليلا يشم هواء البحر بانتظار القيصر القادم من مجاهيل الحروب الطاحنة . لهذا كانت الإسكندرية تمثل جدلية النأي لروح الشاعر وقتلا للغربة والنفي والمواطنة .
على ذات الشريط الساحلي المتوسطي تقع مدينة أخرى هي صانعة لحلم الزمن بعلته وبهائه الفينيقي ، مدينة أعطت للبحر وللتخيل هواجس لا تحصى وأطنانا من الشعر البهيج المتحد بخضرة أرز الجبال المكونة لطرف حلمها والمهيمنة على انبساط الساحل الأزرق .
إنها بيروت ، المدينة التي تتفن بصناعة وجودها عبر بعثرة حصى غيب ثمل جمعهُ في فنجان قهوة حانة من حاناتها الأسطورية لنقرأ لقادم الزمن لحظة الشعور بالرغبة في دمج بحة الشجر وكروان أسمهان بحنجرة وديع الصافي أو فيروز أو بأسى الدمعة المسكينة التي جلست تحت صاحب الأجنحة المتكسرة وهو يعطي ناي أساه الموسيقى ويحوله الى رغبة صوفية أنه جبران خليل جبران .
أحاول في افتراضي أن أتخيل أن بيروت التي حُرمت من أشجان النبي الذي صنعه جبران عبر خواطر اللغة التي قادته الى غربته الأمريكانية أن أتصور أن الشاعر الإسكندري قسطنطين كافافي قد عاش حياته في نزل بنصف إضاءة بحي بيروتي  له  ذات الروح المتعرجة وعطر أزقة الشوارع التي تسرق من البحر بخار الموج لتجعلها رطبة سعيدة بشرفاتها الحديدية والسنادين الغامقة لأشجار الزعتر الصغيرة التي تنتظر اليد المرتعشة التي تعيد إليها ماء نظارتها بعد أن يُنهيَّ الشاعر الموظف دوامه الروتيني في إحدى دوائر العدلية الحكومية .
إبدال مدينة بأخرى لحياة شاعر من الأمور الصعبة والخطرة وخاصة عندما يتعلق الأمر بشاعر يُعدْ في رأي النقد الحديث الشاعر الذي صنع المكان بحسنٍ متفوق ومازج حس أزمنة متداخلة في حكمتها وفلسفتها وأيروتيكتها ليصنع منها نمطا استشعاريا جديدا جَعلَ الشباب الجامعي في أوربا وأمريكا من المهتمين بالشعر وحداثته يتعلقون شوقا بتنبؤات الشاعر وأمزجته والاعيبه الذكية .
 يبدو أن أمرا كهذا ليس في مزاج التصور ولكنه تصورا مفترضاَ أن اجعل كافافيس يعيش حياته في بيروت وليس في الإسكندرية ولكن ليس في صيغة التمني كي لا يُقال أني أتحامل في الدعوة إلى فقدان الإسكندرية شرف إيواء حياة وشاعرية مبدعا فذا كقسطنطين كافافيس ولكني أردت أن أدعو الاخرين ونفسي في افتراض لو أن كافافيس عاش في بيروت الحياة التي عاشها في الإسكندرية . هل يستطيع أن يكتب ذات القصائد العالية الحس والتي أُدرجتْ كإحدى نصوص الطاقة الهائلة لرجل مزج الأزمنة بحماس محارب طروادي وهو لايقوى على مسك كأس خمرته بثبات .
كنت عندما أريد أن أبحث في هاجس المدن وروحها يصادفني تشابه الرؤى حين تمتلك هذه المدن صورة التضاريس الواحدة وانتمائها الى أمكنة متشابهة ولآن بيروت والإسكندرية متوسطتين فهما يمتلكان من رؤى التلاقي الكثير ، فاذا كانت الإسكندرية قد آوت لحدَ الإسكندر بعد موتته البابلية الشهيرة ، وبقيت وعلى الدوام رئة مصر الى الحضارات الأخرى وحلم أبدي لذاكرة نابليون ، فأن بيروت بالرغم من تشبعها بمشرقية الطربوش وانتمائها المتعدد الأعراق والمذاهب والديانات تظل فينيقيتها مصدر عودة منتصرة الى مجد تأريخي كبير لهذا أعتقد أن روح كافافيس تظل واحدة حين نفترض أن غرفة بيروتية قريبة من البحر وحانوتي خمرة الليل ودائرة لها مناخ الرائحة العصملية وشذى أشرعة قبرصية لقادرة على صنع ذات الرؤية الخلابة التي أستطاع فيها عجوز الإسكندرية أن يرينا بهجة ترتعش لها حواسنا الخفية وتجعلنا في تيه من نشوة القراءة واستعادة أمزجة القياصرة والفلاسفة وطالبي رغبة الجسد بمثيلية مبتهجة كالتي تقول :
( أن اقتربت من فراشي ستصيبني رعشة يولسيس وهو يقترب من أيثاكا )
وهكذا يقف حدود افتراضي عند نص يجعل المدن تتشابك ، مدن بألفة المكان والانتماء تصنع خصوصيتها ، وحين تعكس هذه الخصوصية على الشعر تتضح الغرائز العميقة ونكتشف دوال وتفكير هذه المدن لأن الشعر هو الشارع الخلفي والحقيقي لكل عاطفة صادقة .
بيروت اذن في تقديري تنجح تماما في إيواء كافافيس وقد نجحت في أزمنة ما بصناعة حواس مثيرة ومبدعة لغير أبنائها . اذن هي كالإسكندرية مدينة أممية ، وصانعة ماهرة للمشفرات الخيرة التي نبحث فيها عن روح أنيقة تبعدنا عن مشعات العولمة والسيارات المفخخة وصخب مؤثراتها السياسية والاجتماعية لتأتي لنا بكل ما هو عاطفي وجميل ونبيل أيضا.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

موسيقى الاحد: الدرّ النقيّ في الفنّ الموسيقي

في مديح الكُتب المملة

جنون الحب في هوليوود مارلين مونرو وآرثر ميلر أسرار الحب والصراع

هاتف الجنابي: لا أميل إلى النصوص الطلسمية والمنمقة المصطنعة الفارغة

كوجيتو مساءلة الطغاة

مقالات ذات صلة

علم القصة: الذكاء السردي
عام

علم القصة: الذكاء السردي

آنغوس فليتشرترجمة: لطفيّة الدليميالقسم الاولالقصّة Storyالقصّة وسيلةٌ لمناقلة الافكار وليس لإنتاجها. نعم بالتأكيد، للقصّة إستطاعةٌ على إختراع البُرهات الفنتازية (الغرائبية)، غير أنّ هذه الاستطاعة لا تمنحها القدرة على تخليق ذكاء حقيقي. الذكاء الحقيقي موسومٌ...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram