TOP

جريدة المدى > عام > فرانز كافكا.. راهـــب الرواية المتشائـــم

فرانز كافكا.. راهـــب الرواية المتشائـــم

نشر في: 1 سبتمبر, 2013: 10:01 م

(2-2)  لا أريد أن أقول بأن هذا كان خطأ ، فربما لم يكن بالإمكان فعلاً الوصول آنذاك إلى أن يسود الهدوء في الليل بطريقة أخرى ، لكنني بهذا أريد أن أحدد خصائص أساليب تربيتك وتأثيرها عليّ .   لقد أصبحت آنذاك مطيعاً بعد ذلك ، لكنني أصبت بخلل داخل

(2-2)

 لا أريد أن أقول بأن هذا كان خطأ ، فربما لم يكن بالإمكان فعلاً الوصول آنذاك إلى أن يسود الهدوء في الليل بطريقة أخرى ، لكنني بهذا أريد أن أحدد خصائص أساليب تربيتك وتأثيرها عليّ .   لقد أصبحت آنذاك مطيعاً بعد ذلك ، لكنني أصبت بخلل داخلي, وطبقاً لطبيعتي لم أستطع أن أربط البتة ربطا صحيحا بين توسلي البديهي للحصول على الماء ، وبين حملي إلى الخارج بتلك الطريقة المرعبة للرجل العملاق والدي الذي هو السلطة العليا ، أن يأتي بلا سبب تقريبا، ويحملني من فراشي، ويضعني على الشرفة، وأن أكون إذن مثل هذا اللاشيء بالنسبة إليه .

ثمة مسألة بالغة الأهمية يلحظها كافكا هي مسألة السلوكيات التي يحظرها الأب على ابنه في حين يقوم بارتكابها أمامه ، والأب هو القدوة ، فكيف يوفق الابن بين هذا الحظر ، وبين ممارسة الأرب له . 
يروي كافكا هذا المقطع على سبيل التذكير لأبيه : وكان علينا أن نحترس من عدم سقوط الطعام على الأرض، لكن تحتك كانت معظم البقايا على المائدة, ولا يجوز الانشغال بغير الطعام ، لكن أنت كنت تنظف وتقطع أظافرك ، تبري أقلام الرصاص وتنظف أذنيك بنكاشة الأسنان, كان من شأن هذه الأمور أن تكون بحد ذاتها تفاصيل لا أهمية لها على الإطلاق، ولم تثقل على نفسي إلا لكونك أنك أنت الإنسان القدوة بالنسبة لي، لم تكن نفسك لتحافظ على الوصايا التي فرضتها عليّ .
ثم يطرح مرحلة زواج الابن ، وهي أهم مرحلة للعلاقة بين الأب والابن ، وقد تكون أكثر المراحل حساسية ،يدخل كافكا أدق تفاصيلها قائلاً لأبيه : أنا ابنك الذي بلغ السادسة والثلاثين، وما أزال أصاب بالضرر نتيجة ما وقع في الماضي بيننا , أعني بهذا حديثا قصيرا ذات يوم من الأيام المضطربة دار بيننا بعد الإعلان عن رغبتي الأخيرة بالزواج، قلما أهنتني بكلمات إهانة أشد، وأبدا لم تظهر استياءك مني بوضوح أكبر, عندما تحدثت إليّ بشكل مماثل قبل عشرين عاما ، إذ أن الفتى الذي قام آنذاك بمحاولة عَلِق فيها ولا يبدو لك اليوم أكثر خبرة، وإنما أكثر بؤساً بعشرين عاماً واختياري فتاة لم يكن يعني لك شيئاً البتة.
كنت دائماً تقمع بلا وعي قدرتي على اتخاذ القرار، وتظن الآن بلا وعي أنك تعلم ماذا كانت قيمة هذه القدرة, ومن محاولاتي لإنقاذ نفسي في اتجاهات أخرى لم تكن تعلم شيئاً، لذا لم يكن في مقدورك أن تعرف شيئاً عن تسلسل الأفكار الذي كان قد قادني إلى محاولة الزواج هذه . 
كان ينبغي عليك أن تحاول حدسها ، وطبقا لمجموع الحكم الذي كان لديك عليّ، حدست الحدس الأكثر فظاعة وفظاعة ومدعاة للسخرية, ويمكنك حقا أن تجيبني ببعض الأمور فيما يتعلق بمحاولاتي للزواج وقد فعلت ذلك أيضا بأنك لا تستطيع أن تحترم كثيرا قراري عندما فسخت خطوبتي مع ( ف ) وأعدت عقدها مرتين، وعندما جرجرتك مع الوالدة على غير جدوى إلى برلين من أجل الخطوبة . 
إن الفكرة الأساسية لمحاولتـَي الزواج كانت صحيحة كلية : تأسيس بيت زوجية والاستقلال بالذات ، وهذه فكرة محببة لديك لكنها تخرج في الواقع مثل لعبة الأولاد التي يمسك فيها أحدهم يد الآخر ، بل ويضغطها وهو يقول : آه، لتذهب، اذهب، لماذا لا تذهب؟ 
لكن الأمر الذي زاد تعقيدا في حالتنا هو أنك كنت دائماً تعني كلمة لتذهب بصدق، إذ أنك كنت دائماً أيضا تقبض عليّ أو الأصح تقمعني وذلك دون أن تعرف الأمر، وإنما بحكم طبيعتك، لكن كما نحن تظل أبواب الزواج موصدة أمامي لكون الزواج مجال خاص بك, وأحيانا أتصور خريطة العالم مفتوحة ، وأنت ممدد فوقها بالعرض, ومن ثم يبدو لي أنه بالنسبة لحياتي لا يدخل في الحسبان سوى المناطق التي لا تغطيها ، أو التي لا تقع في نطاقك، وطبعا لتصوري عن حجمك ليست هذه المناطق كثيرة ولا تمنح السلوى كثيراً، والزواج بخاصة ليس من هذه المناطق .
وهكذا يرى كافكا أن والده سبب كل معضلة تصيبه ، ولذلك عندما يعجز من مواجهته ، فإنه يلجأ إلى الكتابة لقول ما يشعر به ، ويرى بأنه صواب ، وتعبير عن وجهة نظره .
يقول لأبيه في هذه الرسالة : أنت خلف كل كتاباتي لقد قلت فيها ما لا أستطيع أن أقوله وأنا على صدرك . 
تدوين نزعة الشر روائياً
يصور كافكا ذروة نزعة الشر التي يمارسها البعض ، وقد عبر عن ذلك بقوة وبشكل مركز من خلال رواية أسماها / في مستعمرة العقوبات /.
في هذه الرواية يصور كافكا القسوة التي تبلغ بالإنسان وهو يعذب إنسانا من خلال ضابط وحارسه ، يصور كافكا بدقة شديدة تفاصيل الوحشية التي يمارسها الضابط بحق حارسه ، فالحارس في هذه الرواية ليس له عمل سوى أن يقف كلما تدق الساعة ، ويؤدي التحية لباب الضابط طوال الليل . يُدخل كافكا قارئه إلى أجواء روايته ساردا له : / في الليلة الماضية أراد النقيب أن يرى فيما إذا كان الرجل يقوم بواجبه ، ففتح الباب عندما دقت الساعة الثانية ، وهناك كان هذا الرجل يتكوم نائما ، فتناول سوط الفروسية وجلده على وجهه ، وبدلا من النهوض والتماس الصفح ، أمسك الرجل بساقي سيده وهزه صائحا : / الق ذاك السوط بعيدا ، وإلا سآكلك حيا / . 
وهنا يستاء الضابط ويوجه إليه أقسى ألوان العقاب . يصف المستكشف طريقة العقاب بقوله : إن شكل المسحاة كما ترى يماثل الشكل البشري ، هنا المسحاة المخصصة لجذع الإنسان ، وهنا المسحاتان المخصصتان للساقين ، أما فيما يخص الرأس فثمة هذه / الرّزة / الصغيرة الوحيدة فحسب ، عندما يتمدد الرجل على السرير ويبدأ في الاهتزاز تخفض المسحاة إلى أن تبلغ جسده ، إنها تنظم نفسها تلقائيا إلى حد أن الإبر تلمس جسمه ، أو تكاد ، وحالما يتم التماس يتصلب الشريط الفولاذي متحولا إلى رباط قاس في الحال ، وعندئذ يبدأ الأداء . إن الشاهد الجاهل لا يرى فارقا بين عقوبة وأخرى ، وتبدو المسحاة وهي تؤدي وظيفتها بانتظام متماثل عندما ترتج من تثقب رؤوسها الحادة جلد الجسم الذي يرتج هو نفسه بفعل اهتزاز السرير ، وقد صُنعت المسحاة من الزجاج لكي تتسنى مراقبة التقدم الفعلي لتنفيذ الحكم . كانت عملية تثبيت الإبر في الثقب مشكلة تقنية ، إلا أننا تغلبنا على الصعوبة بعد تجارب كثيرة . ما كان لمشكلة نتولاها تصعب علينا كما ترى وفي مقدور أي شخص الآن أن ينظر عبر الزجاج ، ويراقب الكتابة وهي تأخذ شكلها على الجسد : بجّل رؤساءك. 
رسالة حب من كهف العزلة 
يتحول فرانز كافكا إلى شخص ناقم على الجميع وحتى على المنجزات العلمية مثل الآلة التي تتسبب في انتشار البطالة بين العمال ويفضل العزلة الأبدية في كهف لكن هذه الرغبة تصطدم بتدخل أبيه في حياته الخاصة هذه الحياة التي يفضل أن يمضيها في الكتابة فحسب ولا شيء غير الكتابة .. الكتابة عن الموت , حتى الموت .. إنه يتجرد من الحياة تماما وحتى المرأة الوحيدة التي يحقق له الحب والجنس في الأيام العصيبة يطلب إليها الخروج من حياته يكتب إليها في رسالة خاصة : " كثيرا ما فكرت في حياتنا المستقبلية فأشعر برغبة داخلية في أن خير نمط للحياة بالنسبة لي هو أن أعيش في كهف طويل منعزل عن العالم مضاء بمصباح أكتب وأكتب , ولا شيء غير الكتابة وأن يحمل إليّ طعامي ويوضع في مدخل ممر الكهف بعيدا عن مجلسي الذي أكتب , فأذهب لأكل الطعام على قدر ما تسمح معدتي وحاجتي للطعام وسيكون سيرى من مجلسي حتى المائدة هو نزهتي الوحيدة وعندما التهم ما يقدم لي , سأعود مسرعا إلى الكتابة هوايتي الوحيدة . إذ لا هوى لي في اللعب , فممارسة ما يهوى الإنسان يا حبيبتي لا تتعبه , وسيكون إنتاجي الأدبي رائعا , لأن الروعة هي نتيجة الإرهاق المحبب ولا إرهاق مع من نحب . قد تعدين ذلك جنونا فهل ترضين أن تعيشي في كهف مع هذا المجنون ؟! 
وعلى هذا النمط من الحياة .. ما رأيك ؟.. أليس الهرب من الكهف وساكنه أجدى لك .. أه يا حبيبتي أنا هكذا ولا أستطيع أن أكون غير هذا ولك الخيار من أول الشوط لا من آخره .. فأنت زوجتي والأدب عشيقي .. والمدى بعيد بين الزوجة والعشيقة لك جسمي النحيل , وللأدب قلبي وفكري إنها أسوأ رسالة ترسل إلى امرأة . 
قد قرأت فرانز كافكا منذ بداية عهدي بالأدب, وعندما أقرأ شيئاً جديداً له- أو عنه- أشعر بأنني وقعت على كنز ثمين, إنه كاتب سحري, ترفض أعماله الذهبية أن تتحول إلى التراث الكلاسيكي, إنها تستمد تجددها من هالة التأويل التي تحيط بها.
كافكا بذاته يشكل مدرسة روائية وقصصية فريدة في التاريخ الأدبي المعاصر وقد ترك أثره على معظم عمالقة الرواية والقصة سواء الذين فازوا بجائزة نوبل, أو الذين تجاوزتهم الجائزة وكانوا من المستحقين بها.
حقيقة الأمر أن كافكا كان يكتب ليخفف عن نفسه , ويجد متنفسا في أجواء الكتابة ، ثمة عبارة نعثر عليها في هذه الكتابات ، وهي عبارة اعترافية يقول فيها : أود اليوم أن انزع عن نفسي بالكتابة كل حالة القلق فأنقلها من أعماقي إلى أعماق الورق. ولنتأمل أي شيء كان بوسع كافكا أن يصنعه لو لم يكتب ؟ وأمام جواب واحد يرد على لسانه نثق بأنه كان سينتحر قبل بلوغه سن العشرين وهو يحمل كل هذه الحساسية تجاه مجريات ووقائع الحياة التي يعيشها ، لذلك يحلو له أن يدوّن الجملة التالية بخط واضح : أنا أكتب بالرغم من كل شيء وبأي ثمن ، فالكتابة كفاحي من أجل البقاء . 
حتى هذا الملجأ تستكثره عليه الأسرة وتزعجه فيها فيكتب : إن أوضاعي لا تحتمل لأنها تتناقض مع رغباتي وميولي الوحيدة ، وأعني بذلك الأدب ، الأدب هو كياني ، ولا أريد ، ولا أستطيع أن أكون غير ذلك .

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 2

  1. د محمد صالح رشيد الحافظ

    (( الكتابة كفاحي من أجل البقاءالأدب هو كياني ، ولا أريد ، ولا أستطيع أن أكون غير ذلك !؟. كاتب عظيم لم ينصفه الجهلة والعنصريون..هكذا دائما حياة العظماء

  2. د محمد صالح رشيد الحافظ

    بالفعل إنه كاتب من طراز خاص..يتحسس الوجود والكلمة بقدرة تفوق المعتاد.. انه صوت المضطهدين الثائرين وليس المستسلمين...

يحدث الآن

تضاربات بين مكتب خامنئي وبزشكيان: التفاوض مع أمريكا خيانة

حماس توافق على وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى

البرلمان يعدل جدول أعماله ليوم الأحد المقبل ويضيف فقرة تعديل الموازنة

قائمة مسائية بأسعار الدولار في العراق

التسريبات الصوتية تتسبب بإعفاء آمر اللواء 55 للحشد الشعبي في الأنبار

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

موسيقى الاحد: الدرّ النقيّ في الفنّ الموسيقي

في مديح الكُتب المملة

جنون الحب في هوليوود مارلين مونرو وآرثر ميلر أسرار الحب والصراع

هاتف الجنابي: لا أميل إلى النصوص الطلسمية والمنمقة المصطنعة الفارغة

كوجيتو مساءلة الطغاة

مقالات ذات صلة

علم القصة: الذكاء السردي
عام

علم القصة: الذكاء السردي

آنغوس فليتشرترجمة: لطفيّة الدليميالقسم الاولالقصّة Storyالقصّة وسيلةٌ لمناقلة الافكار وليس لإنتاجها. نعم بالتأكيد، للقصّة إستطاعةٌ على إختراع البُرهات الفنتازية (الغرائبية)، غير أنّ هذه الاستطاعة لا تمنحها القدرة على تخليق ذكاء حقيقي. الذكاء الحقيقي موسومٌ...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram