اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > المدى الثقافي > عازفو الزوال من يوميات باريس

عازفو الزوال من يوميات باريس

نشر في: 7 نوفمبر, 2009: 05:33 م

لطفية الدليمي ارفع قبة المعطف إتقاء البرد وافتح المظلة فتحطمها الريح، أعود الى الدكان الصيني واشتري مظلة رخيصة ستحطمها عاصفة قادمة، مرارا غشني البائع الصيني وهم بارعون في الاقناع والغش، لكنني أعود إليه فلا خيار لدي،
متجره يتوضع على ناصية الشارع مثل قاطع طريق ويقنصنا بغواية المصنوعات الصينية التي تطمئن عوز اللاجئين والمهاجرين من جهات العالم، يتربص بنا متجره الجميل وهو يعرض الف صنف من المشغولات اليدوية والأقداح والبخور وجذور اللوتس واواني الخيزران ونحن في طريقنا الى المتاهة الباريسية.. المطر والصقيع الباريسي لا قلب له إزاء المشردين والحزانى يجعلني أحث الخطى الى أقرب محطة للمترو وليس أمامي سوى محطة مترو بلفيل، أهبط السلم الموحل وامرر بطاقتي في الآلة لتفتح لي المعبر الاوتوماتيكي، أمضي باتجاه قطار الريبوبليك فأجد الرجل جالسا على المصطبة نفسها،هو ذاته عازف العود النوبي من مصر،فارع القامة بإطلالة حزينة ووسامة مترفعة،هيأته أقرب الى هيئة أستاذ ريفي فقد وظيفته في مجتمع غادر، يدندن بعوده أنغاما عربية ساحرة تنسيني لبرهة وهم ٍ ما أنا فيه، أحييه وامنحه بعض النقود فيعزف لي على غير اتفاق إحدى أغنيات أم كلثوم او عبد الوهاب، كان ثمة تواطؤ صامت بين الغريبين المقتلعين من بيئتهما، حين يراني مقبلة يحيي بابتسامة مهذبة ويشرع في العزف وقد يسألني: إزاي الحال؟ ويشرع بعزف روحاني مجبول بشجن شرقي خلال دقيقتين وهي المدة بين رحيل قطار ومجيء ثان، لكني غالبا ما ادع القطار يفوتني حين أكون صحبة صديقة لنتمتع بعزفه الشجي غير آبهتين بالزمن، فيظهر إمتنانه إجادة عزف - لتثميننا فنه الجميل الزائل في مهب القطارات ولامبالاة الغرباء، كان يجد فينا نوعا من تواصل مع ذاكرة عربية شحبت في غربة الغرب ويلمس لدينا احتراما لإنسانيته المسوّرة بكرامة الفن الجميل.. حزانى ينثرون الموسيقى في العراء، موسيقون يعبرون الجهات محلقين بأجنحة غبار ووهم، رماد الشقاء يكدر ملامحهم، هيآتهم رثة ووجوههم المخددة ترتجل أقنعة سعادة هشة لا تنجح في تمويه شقائهم الفاضح، زمنهم مهدور في الطرقات و أنفاق المترو التي يطردون منها بعد منتصف الليل، الأكورديون والساكسفون غالبا رفيقا رحلاتهم العابرة وبعض آلات النقر او الآلات التقليدية للأفارقة والهنود الحمر والسلافيين والآسيويين، يلقي لهم المارة بقطع النقود في قبعة أو طبق وهم يتناوبون العمل طوال النهار حتى انتصاف ليل القطارات فيحملون آلاتهم ويغادرون الى مجهول المدينة، يحاولون ايجاد مأوى في أزقتها المعتمة أو مرائب السيارات المفتوحة او ينصبون خيامهم الصغيرة على رصيف جانبي او في مرج مهجور، يكافحون وطأة التشرد والبؤس بالإدمان والموسيقى،غير آبهين إلا بلحظتهم الزائلة،هم رعاة العدم المنغم وصناع البهجة المؤقتة، بائعو المتع الروحية بلا دنس.. أقابلهم في فسحات وممرات المحطات الأنيقة لمترو باريس في السان جيرمان دي بريه أو الريبوبليك أو الأوبرا والكونكورد وفي محطات الأحياء الفقيرة كمحطة مترو بلفيل أو محطة فيليجيف –لويس اراغون أو فولتير، مـتأهبين للتحليق العسير مع آلاتهم الموسيقية و بطارية سيارة محمولة على عربة صغيرة لتشغيل مكبرة الصوت وفي اليد كوب ورقي او مطاطي اسود لجمع العطايا البخسة من ركاب المترو،وما أن يتوقف قطار الأنفاق حتى تراهم يقفزون اليه بخفة راقص رشيق - ويتخذون موضعا ستراتيجيا في العربة ويبدأ الحفل الانفرادي بعزف مقطوعة شائعة او أغنية كلاسيكية وأحيانا الترنم بقصيدة وغالبا ما ترافق العازف مغنية او مغن يردد أغاني بالإنكليزية مفترضا ان معظم مستخدمي المترو من الغرباء السائحين او المهاجرين الذين يتحدثون هذه اللغة و قد يجزلون لها وله العطاء.. غالبا ما يحتكر فريق موسيقي محطة معينة ويضفي طابعا من الألفة على أجوائها المكتظة فنعتاد رؤية عازفين من الهنود الحمر بشعورهم الطويلة المسدلة ووجناتهم البارزة وعقود الخرز يحتلون ممرات محطة الريبوبليك وفرقة من منغوليا تحتل فسحة محطة بلاس دي ايتالي، وعازف هندوسي يعزف على السيتار في محطة لاشابيل، فتنتقل بنا القطارات بين عوالم وفنون القارات وهي فرصة قد لا تتاح لنا في اية مدينة من مدن الأرض سوى باريس..

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

طقس العراق.. أجواء صحوة وانخفاض في دراجات الحرارة

أسعار صرف الدولار تستقر في بغداد

تنفيذ أوامر قبض بحق موظفين في كهرباء واسط لاختلاسهما مبالغ مالية

إطلاق تطبيق إلكتروني لمتقاعدي العراق

"في 24 ساعة".. حملة كامالا هاريس تجمع 81 مليون دولار

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

أصابع بابلية' لأحمد مختار تتوّج عالميا

أصابع بابلية' لأحمد مختار تتوّج عالميا

في استفتاء موسيقي تنافسي سنوي حصلت إسطوانة “أصابع بابلية” للمؤلف الموسيقي وعازف العود العراقي أحمد مختار على مرتبة ضمن العشر الأوائل في بريطانيا وأميركا، حيث قام راديو “أف أم للموسيقى الكلاسيكية” الذي يبث من...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram