TOP

جريدة المدى > عام > رواية القنافذ في يوم ساخن.."الأمثولة".. الذي طارد الضوء وطوى الزمن

رواية القنافذ في يوم ساخن.."الأمثولة".. الذي طارد الضوء وطوى الزمن

نشر في: 8 سبتمبر, 2013: 10:01 م

 تضمنت الرواية شبكة شخصيات عربية وأجنبية كثيرة وتميزت بوجودها السردي الخاص ، لكل منها دور في البناء الفني الطويل ، منها امتد منذ ابتداء الرواية وحتى نهايتها ، ومنها من ترحم عليه فلاح رحيم وجعله متطابقاً مع القنفذ الذي يظهر قليلاً ، وسرعان ما يعا

 تضمنت الرواية شبكة شخصيات عربية وأجنبية كثيرة وتميزت بوجودها السردي الخاص ، لكل منها دور في البناء الفني الطويل ، منها امتد منذ ابتداء الرواية وحتى نهايتها ، ومنها من ترحم عليه فلاح رحيم وجعله متطابقاً مع القنفذ الذي يظهر قليلاً ، وسرعان ما يعاود الاختباء بجلده ، لكن شخصية شهاب هي المركز السردي مع عائلة سليم .

وكان شهاب مبتدأ الرواية منذ الصفحة الأولى ، حيث منحه فلاح رحيم الرواية هدية له واستدعاء لحضوره والبقاء ، وتعاملت مع الإهداء باعتباره نصاً وهو كذلك وقد اختصر فلاح رحيم شخصية شهاب المركبة / والمعقدة بإشكالاتها الثقافية والمعرفية ، وصراعها العنيف في الداخل ، وأظن بأن شهاب هو النموذج الآخر بعد سليم في الميل للسفر للداخل والركون للذات العميقة ، لأنها الامتحان الحقيقي للتجربة الطويلة التي عاشها شهاب في أوربا ، ربع قرن من سنوات العزلة وأحلام الترقب والتشوق حتى لحظة القرار السهل بالنسبة لشهاب بالعودة من المنفى ، لكنه صعب في وظائفه التي تجاورت مع الفوضى [ التي حولها شهاب بعصا استشهاده الى أمثولة سرّية تدعوني الى حلّ مغاليقها // ص592 ] لم يكن المنفي / العائد شخصاً عادياً ، بل هو أسطورة في القرار ونتائجه ، وأضفى سليم عليه عناصر الأسطورة المقدسة الخاصة بالراعي / الملك / المقدس . هما أول من ميزته العصا تناظراً مع الإلهة في حضارة سومر وأكد ، وكلنا نتذكر الإله شمش وهو يحمل بيده العصا والحلقة المدورة في شريعة حمورابي ، العصا نظام ثقافي عميق وديني أيضا ، ينطوي على دلالة سياسية ، وهذا مقترن بشهاب وتذكرنا العصا بشخصية موسى التي ضرب بها الأرض وتحولت أفعى ، لكن شهاب ضرب بها الأرض ، فلم تتحول الى أفعى ولم ينفجر الماء من الأرض ، بل انبثق الدم متدفقاً ، دم شهاب بما ينطوي عليه من دلالة إيحائية وطاقة بناءة لتجدد الحياة ، وبالإمكان قراءة الدم ثقافياً وشعرياً والكشف عن تعدد معانيه . تضيء عصا شهاب بعضاً من أمثولته السردية . واعتقد بأن أمثولة شهاب الجوهرية الكبيرة هي التي اختصرت سردياته في الرواية ، لكنه ظل يشف عبر كل المرويات الخاصة بالحرب العراقية الإيرانية . حضور وقائع الموت والقتل حتى يبقى الأخر حياً ووجدت في قراءتي للرواية من أن شهاب حاضراً أيضا في نشرات العراق المستمرة وهي تعنيه والمماثل معه ، وقصدية فلاح رحيم قصدية بتركيز سرديات شهاب حتى يجعل منه " أمثولة " حقيقية ، يختبرها المتلقي بما يريد ويحلم من سرديات وهي هائلة وكثيرة جداً . ظل شهاب منذ بداية الرواية وحتى نهايتها بالتنويه ، لأنني تعاملت معه بوصفه نصاً ، ظل مدورة سردية ، وصاغ وحده دائرته وهو مركزها الخاص ، ونقطتها المركزية والقريبة منا [ بموته انتقل الى النقطة القصية التي وفرّت لي مرصداً جديداً لا يشبه في شيء كل المراصد التي أتاحها الوطن والمنفي حتى الآن وهو مرصد يبث في كل ما يحيط به دلالات تتجاوز الخواء والهامشية والتفاهة الى انتظام غريب وقدسية باهرة ص492 ] النقطة القصية التي انتقل إليها شهاب ليست بعيدة إلا أنها في الدائرة ، وربما افترض الروائي أو تخيّل الأرض دائرة له . والدائرة رمز للزمن ابتكره السومريون ومنها تكونت الأشكال الهندسية ، والمربع أولها رمز المكان ، ولم يكونا من ابتكارات شعب أخر في الشرق كما روجت الدراسات الصادرة عن الخطاب الهندو ـ أوربي والنقطة التي أشار ، فلاح رحيم هي قلب السطح التصويري للوحة ، وهي ـ النقطة ـ التي تفضي نحو التشكلات التصويرية ، وحسناً اختار الروائي الدائرة رمزاً لشهاب وقد كرره في أكثر من مكان بإشارات واضحة عن الزمان ، لقد منح شهاب مجداً في الحضور البهي والمقدس [ لا يمكن لعامل البناء أن يتم مهمته دون أن تتعفرّ ثيابه بالأتربة والغبار ودون أن يخطئ ويصحح خطأ هناك حيوية في التورط السياسي يفتقر إليها الوجود الساكن الشاحب في بُرج معزول من طين المصائب ص490 ] .
لم يكن شهاب ذاكرة قريبة من سليم فقط ، بل هو ذاكرة حية ونشطة ، اختزن سليم بعضاً حيوياً منها . هذا الماضي / أثريات الذاكرة كما قال فوكو ، هو جوهر العلاقة بين الاثنين ، وسليم حافظ لتلك الذاكرة من خلال مدوّنات يومية شغف بها سليم منذ سنوات قديمة ، وصارت جزءا حياً من حياته المستقرة أو القلقة ، خوفه وإحباطه كلها مدونة ، والعودة لليوميات ، رضى بالذي فيها ، وتنطوي على احتمالات تصحيح ومعرفي وسياسي أيضا . كشفت يومية الاثنين 19/7/1976 الى الاختلاف العميق بين الاثنين كما قال سليم الذي استطاع أخيرا تحرير شهاب من صفته كمثقف ديمقراطي وجذبه للانتماء وقال سليم في يوميته " المثقف أين الحياة والمعرفة فعل قبل ان تكون تأملا لان الفعل مصدر المعرفة الحقة والأمل . التأمل جزء محدود من الفعل ، وحسن نتكلم عن الفعل فنحن لا نقصد الفعل الفردي ، بل فعل تاريخي جماعي له قوة التغيير الحاسم ، وكل هذه الشروط لا تجد ما يضمن الوفاء بها إلا التنظيم السياسي الذي يتجاوز به المثقف نرجسيته وانغلاقه ليصبح فاعلاً ص490 / نجح سليم في التحول الثقافي والسياسي الذي جعلته أمثولة سرية ، هذا كلام مهم ، قاله سليم في لحظة امتحان صعب ، لحظة الإمساك الأخير بالمدورة السردية المتوترة بعنف استذكار شهاب التي قلت عنها أسطورة وستظل سرية ، بحاجة الى ترجمة لمعرفة تفاصيلها . لقد صاغ شهاب قراره الحازم بعد طول تردد ، وغادر منطقة الوسط واتجه نحو فضاء وجوده الحديد ، الذي انتهى به حاملاً عصاه الرعوية التي لم تحن فرصتها الموضوعية ، كانت الرمزية بديلاً لها ولفت سليم بسورتها المدوّمة وتبدّى له شهاب مطارداً للضوء وطاوياً للزمن كما في مقطع شعري لترانستروم .[ الآن وقد شطب مهزلة الزمان وتقلباته وسجلاته وانتقل الى حيث لا يجرؤ الزمان على مسّه بأصابعه الشيطانية العابثة ، صار شخصاً أخر لم أتعرف عليه بعد / ص491 ] 
خرج شهاب بوعي كامل من كينونته " الوجود بحاجة الى موجودة " أنا أعيد أنتاج هذه المقولة الفلسفية من عمقها الداخلي ، ارتباطاً مع مقولة أخرى لها يدجر " اللغة بيت الوجود " بمعنى أن اللغة هي الموجود / والكائن ، وهذا الموجود مستمر ولا يتعطل . واعتقد بان المعنى الخاص بالموجود ، أو بعض منه ، هو اللغة التي تتمحور فيها الكينونة . واستشهاد شهاب ، لم يكن شطباً لوجوده لأنه لغته الخاصة ، مازالت باقية وحاضره حتى الأبد ، مدّونة ، ومروية ، وأكثر سردية ، ليست عامة وهي تكوين لخطاب لغة تأسيس وبفرادة خاصة ، لأنه شطب على مهزلة الزمان كما قال فلاح رحيم ، هو مكتفي بالمكان ولذا عاد إليه ، لكنه بالنهاية عرج الى نوع من الفراديس لا تصل إليها أصابع الشيطان ، وتحول الى شخص آخر . غريب تماماً عن سليم ، لان المشترك بينهما تزعزع ، وتحول ذاكرة سردية من نوع أخر . وباستعانة بمقولة الشاعر غوته : الزمان شيطان ، تفضي بنا دقة الراوي في مقولته عن أصابع الشيطان التي هي مجازيات السرد واعتقد بان موجود شهاب ، لغته / مرويات المدونة والشفوية ، منحت الحياة قيمة جديدة ، لغة أكثر فصاحة وبلاغة ، اللغة ، أنتجت أسطورة اليوم الجديدة ، والمغايرة تماماً ، أسهمت هذه الميثا بمجازاتها ، رموزها ، وقد ساهمت كما ورد في كتاب جدل التنوير من أن الأسطورة عقلنت الطبيعة وما حصل ويجري فيها ، جعلته أكثر وضوحاً وزودته بالوعي ، مثلما حولته [ لاحقا ] وعيا ، ولا نستغرب من قدرات الأسطورة على التحول الايجابي وقد أشار لذلك كل من رولان بارت وكاسييرر وهايدجر الى أن الأسطورة فعالة تماماً في أنتاج واقتراح الشعر والفلسفة ، ولأننا قبلنا الأسطورة فان التاريخ على تخومها ، ويرتسم لنا ، الشعر / الفلسفة / التاريخ ، هذا الثالوث المشترك المتبدّي في شهاب ، قد منحنا وسيظل طاقة البحث عنه في اللغة المدّونة والموجود المتصور له في الوجود الجديد .
علينا قراءة هذه الأسطورة بعد ترجمتها ، حتى نتوصل الى بعض من معانيها التي استعادت شهاب لكينونته وسيظل محصناً بها ، وبالذي أنتجته الأسطورة اليوم من وعي المعيار الذي دائماً ما يتركه الجوهري في غيابه الفيزيائي [ لقد كتب شهاب الردّ المنتظر على رسالتي المطولة الأخيرة ، كتبه باستشهاده الباهر ، وهو رد مفارق يتخطى الحديث وثرثرته ويخطو برصانة الى عالم جليل وغريب لا يشبه شيئاً مما تحفل به اللوحة العراقية حيث الشك والاضطراب والألم ص492 ] .
اتجه " الشهاب " مضيئاً باشتغاله الذهبي ، المتماهي مع لون الدم ، نزل نحو طريق لن يكون له طريق غيره ، نحو الأرض وكأن " الشهاب " اختار الأرض / الوجود ثانية بعد اشتعاله بالكامن من الطاقة بجسده ، فأودعها في المكان الذي لا مصير له بعيداً عنه [ بعد هذا الانغمار المكثف في وقائع الموت وأخباره ، يسألني بعضهم أحيانا ، إلا يخاف / الموت ؟ فأجيب ، أنا الوافد أخيرا الى دوّامة العنف المستشري ، اعلم أنني قد أكون هدفاً لقتلة لا اعرفهم ولا أظنهم يبغون ثأراً شخصياً مني ، واعلم أنني أخشى بغريزتي الإنسانية لحظة حين تأتي بالطريقة الشنيعة التي تأتي بها واعلم أنني قبل ذلك كله كثير القلق على مصير أخي ومرافقيّ الذين بملازمتهم لي في سكوني وحركتي يجازفون بحياتهم وحياة عوائلهم ص339] 
[ طارد " شهاب " الضوء طاوياً الزمن ] كما قال الشاعر ترانسترومر ، عاد الشهابي الى الأرض استعارة ليحط فوق مكان عاد إليه كائناً من طراز خاص ، هو طراز الإنسان الشبيه بالشعاع كما قال شاتوبريان ] .
لم يكن المتحقق في العراق مثيراً لمخاوف شهاب ، ولم يفزعه الموت ، لأنه مستهدف من قبل القتلة ، الذين يراهم يقتربون منه ، لأنه اقتنع بمقولة بيير بورديو ان النهاية حاصلة في الحاضر . لقد غابت الأنا النيتشوية / الجسد ، لكن أمثولته السرية باقية وحاضرة . عاد الشهاب طافراً من وهم المنفى الى العراق ، الحقيقة الوحيدة ، عاد للعيش وسط الجماعة المؤهلة لإنتاج وتصحيح تاريخها ، احترق الشهاب وتكشفت أمثولته السرية عبر تجدد انبعاثه مثل الفينيق ، وطائر السيمرغ في منطق الطير لفريد الدين العطار الذي انفرد أخيراً بقيادة الثلاثين طيراً ، وكان ـ السيمرغ ـ ثلاثين طيراً وبالعكس ، هذا العدد هو خلاصة لما موجود في الكون الصوفي.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

تضاربات بين مكتب خامنئي وبزشكيان: التفاوض مع أمريكا خيانة

حماس توافق على وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى

البرلمان يعدل جدول أعماله ليوم الأحد المقبل ويضيف فقرة تعديل الموازنة

قائمة مسائية بأسعار الدولار في العراق

التسريبات الصوتية تتسبب بإعفاء آمر اللواء 55 للحشد الشعبي في الأنبار

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

موسيقى الاحد: الدرّ النقيّ في الفنّ الموسيقي

في مديح الكُتب المملة

جنون الحب في هوليوود مارلين مونرو وآرثر ميلر أسرار الحب والصراع

هاتف الجنابي: لا أميل إلى النصوص الطلسمية والمنمقة المصطنعة الفارغة

كوجيتو مساءلة الطغاة

مقالات ذات صلة

علم القصة: الذكاء السردي
عام

علم القصة: الذكاء السردي

آنغوس فليتشرترجمة: لطفيّة الدليميالقسم الاولالقصّة Storyالقصّة وسيلةٌ لمناقلة الافكار وليس لإنتاجها. نعم بالتأكيد، للقصّة إستطاعةٌ على إختراع البُرهات الفنتازية (الغرائبية)، غير أنّ هذه الاستطاعة لا تمنحها القدرة على تخليق ذكاء حقيقي. الذكاء الحقيقي موسومٌ...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram