TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > وصية أورسون ويلز الأخيرة

وصية أورسون ويلز الأخيرة

نشر في: 10 سبتمبر, 2013: 10:01 م

أورسون ويلز لم يتوصل أبداً كمخرج سينمائي إلى كسب إعجاب الجمهور، الأمر الذي تكهن به الفريد هيتشكوك بقناعة وحسبه مثل موظف حسابات، إذ عرف كيف ستكون ردود أفعال الرعب عند المشاهدين الجالسين في الصالات السينمائية المظلمة، عرف سيكون رد فعلهم أمام مباغتة سكين أو مباغتة ضربة مفاجئة لوتر آلة موسيقية، فضلاً عن ذلك أمتلك هيتشكوك إلى جانب موهبة غواية الجماهير، موهبة إضافية في الإبهار بواسطة تكنيكه الخاطف للنجاح. المخرج الفرنسي المتوفي فرانسوا تروفو بحث معه وبشكل لا يكل عن سر ذلك المخطط المسبق، عن حركة الكاميرا في مشهد سقوط على السلم، عن الحيل الخادعة في مشهد للغرق. تروفو حولّ هيتشكوك إلى هيئة الساحر، حتى أننا آنذاك كما ـذكر، وبعد قراءة كتابه عن هيتشكوك أُصبنا بعدوى تقديس شخصية المخرج السينمائي والانحناء أمام عبقريته.
على العكس من ذلك أورسون ويلز. فهو في محادثاته مع بيتير بوغدانوفيتش يتسلح بوسائل وقاية كثيرة ضد ذلك التأليه، ضد كل ذلك الافتراء الذي أُلصق بقوة بسينما المؤلف، والذي يعتقد بأن التأليه ذلك قام بتخريب السينما كثيراً. إخراج فلم يقول أورسون ويلز هو مثل وضع مرآة أمام الطبيعة، فعندما يُدير الفن ظهره للطبيعة ويبدو مختلفاً عما تفعله الروايات العظيمة واللوحات، عندما تنتهي الأفلام وتُفرغ فإنها لا تفعل شيئاً آخر أكثر من اللهاث وراء الجشع، يتحكم بها شباك التذاكر وحسب.
أورسون ويلز الذي جسد مرات كثيرة هيئة المفرط في جنونه يُجيب على مدائح تلاميذه له بدرس رائع في الشعور العام المشترك وفي التواضع: "المخرج السينمائي يجب أن يستمر على كونه شخصية متناقضة، بين أمور كثيرة أخرى، لأن كل ما يوقع عليه باسمه يأتي من جانب آخر، لأن الكثير من أشيائه الجيدة هي صدف مهيمنة لاغير أو هي تأتي بسبب سيادة الحظ الحسن أو للحظوة..".
أتذكر بوضوح صورة الفنانين المنافقين والمزيفين عندنا، البوزات التي يعملونها، الإفراط في مديح النفس، أتذكر إتقانهم لعمل استعراضات من الافتعالات في شرح صعوبات ومعاناة مهنتهم دون أن ينسوا احتقار المهن الأخرى، في نظرتهم للأدب بشكل خاص، في إطلاق الأخبار الواحد تلو الآخر عن الأفلام التي سيجنونها، رغم أنهم يعرفون أن ما يقولونه خديعة للنفس وحسب، لا علاقة له حتى بالأمنيات، له علاقة ببعث إشارات للآخرين، حريصون على استفزاز كل ما يمكن أن يوقظ عند الآخرين السجود غير المشروط للاختصاصيين والمعجبين، كأنهم الوحيدون في الساحة، لا فن ولا أدب قبلهم، معهم تبدأ السينما، أو تبدأ كتابة الرواية، أو كتابة الشعر، كل شيء كزيف، فقط هم؛ ذلك ما لا يفعله السينمائيون والكتاب والفنانون الكبار فعلاً، فهم يتحركون دون حركات مفتعلة ويتكلمون بنبرات بسيطة، وفي كل حركة منهم يتنفس المرء هواءهم البسيط ويشعر بهدوئهم ويلاحظ إيحاءهم الطبيعي، وبأنهم يفعلون الأشياء ويمارسون إبداعهم لرغبة لا غير دون الكثير من التضحية، دون التقليل من شأن زملائهم في الإبداع، أو الهجوم على ما يبدعوه. في مقابلة مع الكاتب الإسباني الكبير خوان مارسيه، يقول الروائي بأن الشيء الوحيد الذي يحتاجه لكتابة رواية هو قصة جيدة ورغبة بقصها.
شيخ، ومبجل وعلى مشارف نهاية حياته، مختنقاً بسبب اللوم وتأنيب الضمير بعدم النجاح، وبسبب عبادة الأوثان لأولئك الذين يُسميهم بأنفة صيادي الرموز، اختصر أورسون ويلز وصيته أمام بيتر بوغدانوفيتش لما يفهمه تحت اعتبارات تكنيك السينما المبهمة:" بما يخص ميكانيكية عمل فيلم، من الممكن تعليم ذلك لأي شخص ذكي في نهاية أسبوع وحسب". تلك هي وصية أورسون ويلز، التي على الأجيال اللاحقة تعليقها على الحيطان!

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 1

  1. عابر

    ولكن يبقى التاريخ يحفظ لارسون ويلز فيلمه ( المواطن كين) دون اي فلم لهيتشكوك.

يحدث الآن

«الإطار» يطالب بانسحاب السوداني والمالكي.. وخطة قريبة لـ«دمج الحشد»

تراجع معدلات الانتحار في ذي قار بنسبة 27% خلال عام 2025

عراقيان يفوزان ضمن أفضل مئة فنان كاريكاتير في العالم

العمود الثامن: بلاد الشعارات وبلدان السعادة

بغداد تصغي للكريسمس… الفن مساحة مشتركة للفرح

ملحق منارات

الأكثر قراءة

العمود الثامن: يزن سميث وأعوانه

العمود الثامن: "علي بابا" يطالبنا بالتقشف !!

سافايا الأميركي مقابل ريان الإيراني

فـي حضـرة الـتـّكـريــم

العمود الثامن: موجات الجزائري المرتدة

العمود الثامن: بلاد الشعارات وبلدان السعادة

 علي حسين نحن بلاد نُحكم بالخطابات والشعارات، وبيانات الانسداد، يصدح المسؤول بصوته ليخفي فشله وعجزه عن إدارة شؤون الناس.. كل مسؤول يختار طبقة صوتية خاصة به، ليخفي معها سنوات من العجز عن مواجهة...
علي حسين

قناطر: شجاعةُ الحسين أم حكمةُ الحسن ؟

طالب عبد العزيز اختفى أنموذجُ الامام الحسن بن علي في السردية الاسلامية المعتدلة طويلاً، وقلّما أُسْتحضرَ أنموذجه المسالم؛ في الخطب الدينية، والمجالس الحسينية، بخاصة، ذات الطبيعة الثورية، ولم تدرس بنودُ الاتفاقية(صُلح الحسن) التي عقدها...
طالب عبد العزيز

العراق.. السلطة تصفي الحق العام في التعليم المدرسي

أحمد حسن المدرسة الحكومية في أي مجتمع تعد أحد أعمدة تكوين المواطنة وإثبات وجود الدولة نفسها، وتتجاوز في أهميتها الجيش ، لأنها الحاضنة التي يتكون فيها الفرد خارج روابط الدم، ويتعلم الانتماء إلى جماعة...
أحمد حسن

فيلسوف يُشَخِّص مصدر الخلل

ابراهيم البليهي نبَّه الفيلسوف البريطاني الشهير إدموند بيرك إلى أنه من السهل ضياع الحقيقة وسيطرة الفكرة المغلوطة بعاملين: العامل الأول إثارة الخوف لجعل الكل يستجيبون للجهالة فرارًا مما جرى التخويف منه واندفاعا في اتجاه...
ابراهيم البليهي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram