أورسون ويلز لم يتوصل أبداً كمخرج سينمائي إلى كسب إعجاب الجمهور، الأمر الذي تكهن به الفريد هيتشكوك بقناعة وحسبه مثل موظف حسابات، إذ عرف كيف ستكون ردود أفعال الرعب عند المشاهدين الجالسين في الصالات السينمائية المظلمة، عرف سيكون رد فعلهم أمام مباغتة سكين أو مباغتة ضربة مفاجئة لوتر آلة موسيقية، فضلاً عن ذلك أمتلك هيتشكوك إلى جانب موهبة غواية الجماهير، موهبة إضافية في الإبهار بواسطة تكنيكه الخاطف للنجاح. المخرج الفرنسي المتوفي فرانسوا تروفو بحث معه وبشكل لا يكل عن سر ذلك المخطط المسبق، عن حركة الكاميرا في مشهد سقوط على السلم، عن الحيل الخادعة في مشهد للغرق. تروفو حولّ هيتشكوك إلى هيئة الساحر، حتى أننا آنذاك كما ـذكر، وبعد قراءة كتابه عن هيتشكوك أُصبنا بعدوى تقديس شخصية المخرج السينمائي والانحناء أمام عبقريته.
على العكس من ذلك أورسون ويلز. فهو في محادثاته مع بيتير بوغدانوفيتش يتسلح بوسائل وقاية كثيرة ضد ذلك التأليه، ضد كل ذلك الافتراء الذي أُلصق بقوة بسينما المؤلف، والذي يعتقد بأن التأليه ذلك قام بتخريب السينما كثيراً. إخراج فلم يقول أورسون ويلز هو مثل وضع مرآة أمام الطبيعة، فعندما يُدير الفن ظهره للطبيعة ويبدو مختلفاً عما تفعله الروايات العظيمة واللوحات، عندما تنتهي الأفلام وتُفرغ فإنها لا تفعل شيئاً آخر أكثر من اللهاث وراء الجشع، يتحكم بها شباك التذاكر وحسب.
أورسون ويلز الذي جسد مرات كثيرة هيئة المفرط في جنونه يُجيب على مدائح تلاميذه له بدرس رائع في الشعور العام المشترك وفي التواضع: "المخرج السينمائي يجب أن يستمر على كونه شخصية متناقضة، بين أمور كثيرة أخرى، لأن كل ما يوقع عليه باسمه يأتي من جانب آخر، لأن الكثير من أشيائه الجيدة هي صدف مهيمنة لاغير أو هي تأتي بسبب سيادة الحظ الحسن أو للحظوة..".
أتذكر بوضوح صورة الفنانين المنافقين والمزيفين عندنا، البوزات التي يعملونها، الإفراط في مديح النفس، أتذكر إتقانهم لعمل استعراضات من الافتعالات في شرح صعوبات ومعاناة مهنتهم دون أن ينسوا احتقار المهن الأخرى، في نظرتهم للأدب بشكل خاص، في إطلاق الأخبار الواحد تلو الآخر عن الأفلام التي سيجنونها، رغم أنهم يعرفون أن ما يقولونه خديعة للنفس وحسب، لا علاقة له حتى بالأمنيات، له علاقة ببعث إشارات للآخرين، حريصون على استفزاز كل ما يمكن أن يوقظ عند الآخرين السجود غير المشروط للاختصاصيين والمعجبين، كأنهم الوحيدون في الساحة، لا فن ولا أدب قبلهم، معهم تبدأ السينما، أو تبدأ كتابة الرواية، أو كتابة الشعر، كل شيء كزيف، فقط هم؛ ذلك ما لا يفعله السينمائيون والكتاب والفنانون الكبار فعلاً، فهم يتحركون دون حركات مفتعلة ويتكلمون بنبرات بسيطة، وفي كل حركة منهم يتنفس المرء هواءهم البسيط ويشعر بهدوئهم ويلاحظ إيحاءهم الطبيعي، وبأنهم يفعلون الأشياء ويمارسون إبداعهم لرغبة لا غير دون الكثير من التضحية، دون التقليل من شأن زملائهم في الإبداع، أو الهجوم على ما يبدعوه. في مقابلة مع الكاتب الإسباني الكبير خوان مارسيه، يقول الروائي بأن الشيء الوحيد الذي يحتاجه لكتابة رواية هو قصة جيدة ورغبة بقصها.
شيخ، ومبجل وعلى مشارف نهاية حياته، مختنقاً بسبب اللوم وتأنيب الضمير بعدم النجاح، وبسبب عبادة الأوثان لأولئك الذين يُسميهم بأنفة صيادي الرموز، اختصر أورسون ويلز وصيته أمام بيتر بوغدانوفيتش لما يفهمه تحت اعتبارات تكنيك السينما المبهمة:" بما يخص ميكانيكية عمل فيلم، من الممكن تعليم ذلك لأي شخص ذكي في نهاية أسبوع وحسب". تلك هي وصية أورسون ويلز، التي على الأجيال اللاحقة تعليقها على الحيطان!
وصية أورسون ويلز الأخيرة
[post-views]
نشر في: 10 سبتمبر, 2013: 10:01 م
جميع التعليقات 1
عابر
ولكن يبقى التاريخ يحفظ لارسون ويلز فيلمه ( المواطن كين) دون اي فلم لهيتشكوك.