TOP

جريدة المدى > عام > حين يقرأ شاعر شاعرا آخر..لاركن والسلطاني.. العديد من النقاط المشتركة

حين يقرأ شاعر شاعرا آخر..لاركن والسلطاني.. العديد من النقاط المشتركة

نشر في: 14 سبتمبر, 2013: 10:01 م

بصفتي قارئا جيدا للشعر على مدى عقود، دائما ما أتساءل كيف يمكن لأحد الشعراء أن يقرأ شعرا لشاعر آخر، ولاسيما في ضوء الفوارق بين اللغات المختلفة، ولذا لم يكن من الغريب أن أرى إجابة على تلك التساؤلات في أطروحة فاضل السلطاني عن الأديب والروائي فيليب لاركن

بصفتي قارئا جيدا للشعر على مدى عقود، دائما ما أتساءل كيف يمكن لأحد الشعراء أن يقرأ شعرا لشاعر آخر، ولاسيما في ضوء الفوارق بين اللغات المختلفة، ولذا لم يكن من الغريب أن أرى إجابة على تلك التساؤلات في أطروحة فاضل السلطاني عن الأديب والروائي فيليب لاركن، لسببين: الأول هو أنني كنت أحد المعجبين بلاركن منذ أن عرفته في الستينات من القرن الماضي، عندما كنت أدرس في العاصمة البريطانية لندن. وفي التسعينات من القرن الماضي، شرفت بصداقة السلطاني، وهو ما منحني فرصة أن أكون من بين القراء الأوائل لقصائده.

وبالرغم من حقيقة أن السلطاني ولاركن ينحدران من آفاق مختلفة، إلا أن هناك العديد من النقاط المشتركة بينهما، فكلاهما نتاج لثقافات ما زالت ترى أن الشعر يحظى بأهمية بالغة، فما إن وطأت قدماي الأراضي البريطانية، حتى فوجئت بحقيقة أن الشعر ما زال يجذب عددا كبيرا من الجمهور، بالمقارنة ببلدان أوروبية أخرى، بما في ذلك فرنسا وألمانيا. وأتذكر أنني قد حضرت ندوة لأدريان ميتشيل حضرها أكثر من 3000 شخص في إحدى الحدائق المركزية بلندن. وكان هناك العديد من الأسماء اللامعة للشعراء، الذين يعاملون، في بعض الحالات، كنجوم الروك، بكل ما في هذه المعاملة من مزايا وعيوب، بما في ذلك الاهتمام الكبير من جانب الصحافة. ويبدو أن ما وصفه الشاعر تي. أس إليوت بأنه "شكل طفيف من أشكال الفن" له تأثير كبير على التيارات الثقافية في البلاد. وفي سياق مختلف، يحظى الشعر بنفس المكانة في العراق، وهو مسقط رأس السلطاني. وبمعنى من المعاني، يمكن للمرء أن يدعي أن العراق، أو بلاد ما بين النهرين القديمة، هو المكان الذي شهد ملحمة جلجامش التي صورت ميلاد الأدب على أنه استجابة إنسانية عميقة الشعور لأسرار الوجود. ومرة أخرى في الستينات من القرن الماضي، وخارج الدائرة الضيقة للنخبة الحاكمة، كان الشعراء هم الفئة الوحيدة المعروفة للرجل العادي في الشارع، وكان كثير من هؤلاء الشعراء يعيشون في المنفى.
ومنذ البداية، لاحظت أن الإنتاج الأدبي للاركن كان بمثابة تنويع شعري لـ" موسيقى الحجرة" الكلاسيكية، فهو شاعر اللمسات الصغيرة واللحظات العابرة وومضات البصيرة، وشاعر الزوال الدائم بالشكل الذي عبر عنه في قصيدة "القناعة"، التي تعد أحد أقصر قصائده. ومن جانبه، نأى السلطاني بنفسه، ولاسيما في القصائد التي كتبها في العقد الماضي أو نحو ذلك، عن الطموحات الملحمية للعديد من الشعراء العرب من جيله وأصبح قريبا مما يطلق عليه رينيه شار اسم "الموسيقى الصغيرة للحياة".
منذ الوهلة الأولى، يبدو لاركن غريبا. وكان جيل الشعراء الذي سبقه مباشرة قد شجع التيارات الأيديولوجية القوية، بدءا من اليسارية المختلطة لأودن وحتى الأنغلو- كاثوليكية لإليوت. وقد ركز بعضهم على الأحداث الرئيسة في وقتهم، بما في ذلك الحربين العالميتين والحرب الأهلية الإسبانية، في حين سعى كثيرون للتجربة والمغامرة في أراض بعيدة، وفي بعض الحالات واصلوا الالتزام بتقاليد بايرون. ومع ذلك، ظل لاركن ثابتا مثل شجرة البلوط على طرف الغابة. فعلى مدى عقود من الزمان، عاش لاركن في " هال"؛ تلك المدينة التي لم تكن الأكثر شهرة في بريطانيا العظمى، وكان يقوم بزيارة أصدقائه في أماكن أكثر هدوءا في جنوب ويلز لبضعة أيام. وبمعنى من المعاني، كان لاركن يعيش في عزلته، هذا العالم الذي أخطأ البعض فهمه وظنوا أنه شعور بالوحدة، ولكنه كان رحبا بما يكفي للتعبير عن مجموعة مذهلة من المشاعر. وفي أطروحته، بحث السلطاني عن قدرة لاركن على "تجاوز العزلة" من خلال الشعر.
ولم يبن لاركن تفرده على الابتعاد عن الأيديولوجيات المألوفة اليوم فسحب، ولكنه وضع آلية دفاعية ضد هذا المجتمع الاستهلاكي الناشئ الذي بدأ من أوائل الستينات من القرن الماضي، وهي الفترة التي نشأ خلالها مبدأ "لم نصل مطلقا لهذا المستوى من الجودة من قبل" بإعادة صياغة جميع جوانب وجود الإنسان الغربي.
إن كون تفرد لاركن غريبا بالنسبة لبعض معاصريه ليس بالأمر المفاجئ. ففي عصر "الحركات"، أصر على أن يبقى ثابتا. وفي وقت هيمنت عليه الأيديولوجيات، تحرر من كل القيود العقائدية. إن الطبيعة الوليدة للتعددية الثقافية لم تمسه مطلقا إذ ظل إنجليزيا بإصرار. وفي واقع الأمر، إن إنجليزيته الخالصة هي التي أكسبته شعبية عالمية، إذ جعلته جذابا وسهل الوصول إليه بالنسبة للكثيرين، من بينهم السلطاني، من بيئات ثقافية مختلفة. وليس من المفاجئ أن ينظر إليه بعض مؤيدي الأفكار ضيقي الأفق باعتباره "عنصريا" أو "كارها للنساء". فهو لم يكن مؤهلا لإصلاح سياسي من أي نوع. وعلى الرغم من ذلك، فإن من الأكثر ظلما الزعم بأن لاركن هو شاعر "السوقة" و"العامة". في أية حالة، نجد غالبية جوانب الحياة "سوقية" و"عامية". يتناول السلطاني كل تلك التسميات بأسلوب هادئ ومؤثر. كذلك، يتبنى فكرة أن لاركن ليس مؤيدا لمذهب العدمية، وهو اتهام وجه أيضا ضد دوستويفسكي، إلى جانب آخرين، أو " ساحر الغموض"، وهو لقب استخدم أيضا ضد مالارميه.
عادة ما يشار إلى لاركن مقترنا مع صديقه جون بيتجمان في دلالة على أنه كانت تربطهما علاقة خاصة. فضلا عن ذلك، ينظر إليه بعض النقاد بوصفه وريثا أدبيا لتوماس هاردي، الذي كان شعره مصدر إلهام له في البداية.
وبالرغم من ذلك، وفي واحد من أكثر الأجزاء المثيرة في دراسته، يعرض السلطاني صلات روحية أخرى تجمع بين لاركن وشاعر آخر من شعرائه البريطانيين المفضلين، وهو آر. أس. توماس.
كتب السلطاني: " أرى  أن لاركن كان قريبا بصورة أكبر من آر. أس. توماس، حتى أن العديد من موضوعات لاركن أكثر تشابها مع موضوعات توماس منها مع موضوعات أي شاعر بريطاني آخر في النصف الثاني من القرن العشرين، بالرغم من أن أساليبهما وأنماطهما الشعرية مختلفة بالأساس. إن الانتظار والغياب، والموت والفشل، والمعاناة،  والصدى والظلال مفردات شائعة جدا في خطابهما الشعري. ويبدو أن الشاعرين يحاكيان أفكار كيركيغارد، ربما بلا وعي في حالة لاركن، وبوعي في حالة توماس الذي قرأ أعمال كيركيغارد وخصص قصيدة له.
كلا الشاعرين منشغل بالقضايا الوجودية ذاتها: التفرد وحرية الاختيار والانقسام بين الحياة والفن، والنفس والآخرين. لكن على عكس لاركن، تبدو مقاربة توماس لهذه الموضوعات مقاربة دينية، غير شاغله الأساسي، مثل لاركن، هو الحالة الإنسانية: العزلة والغياب، والإحباط والتعاسة، والفشل الروحاني في المجتمع الحديث المادي. في حياتهما وأعمالهما، سعى الشاعران إلى حل مشكلة الانقسام بين الفن والحياة، بين "جوعين، جوع للخبز وجوع الروح الفظة لنعمة الضوء"، مثلما أشار توماس ببراعة في إحدى قصائده. وتمثل قضية الانتماء بالنسبة لكا الشاعرين لب فلسفتهما الوجودية، بالمعنى الواسع للكلمة، سواء أكانت تتخذ منظورا تجريبيا، كما في حالة لاركن، أم شكلا دينيا، كما هو الحال مع توماس".
لا تعكس دراسة السلطاني الاحترام الذي يكنه شاعر لآخر بالرغم من الأجيال والحدود الثقافية فقط،  لكنها أيضا بحث عميق يلقي ضوءا جديدا على جوانب من شعر لاركن تتجاوز نطاق السير الذاتية الزائفة التي خضع لها على مر عقود. وفيما يعد اختيار السلطاني للاركن، كموضوع أطروحة، عائد للذوق الشخصي، إلا أنه يعكس أيضا المنزلة الرفيعة الثابتة التي اكتسبها ذلك الليبرالي المتخرج في جامعة هول بعد ربع قرن من وفاته. لقد صمد شعر لاركن أمام اختبار الزمن، ليؤمن له مكانا بين عظماء الكلاسيكيات الإنجليزية الحديثة. كتب لاركن في إحدى المرات: "يروق لي الاعتقاد بأن الناس في الحانات يتحدثون عن أشعاري". حسنا، إنهم يفعلون هذا بالفعل في الحانات وفي أماكن أخرى.

* كاتب إيراني يكتب لـ" التايمز" البريطانية و" نيويورك بوست " الأميركية، اضافة إلى جريدة" الشرق الأوسط". والنص هو ترجمة لمقدمة كتاب" لاركن.. شاعرا لا منتميا".

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

تضاربات بين مكتب خامنئي وبزشكيان: التفاوض مع أمريكا خيانة

حماس توافق على وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى

البرلمان يعدل جدول أعماله ليوم الأحد المقبل ويضيف فقرة تعديل الموازنة

قائمة مسائية بأسعار الدولار في العراق

التسريبات الصوتية تتسبب بإعفاء آمر اللواء 55 للحشد الشعبي في الأنبار

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

موسيقى الاحد: الدرّ النقيّ في الفنّ الموسيقي

في مديح الكُتب المملة

جنون الحب في هوليوود مارلين مونرو وآرثر ميلر أسرار الحب والصراع

هاتف الجنابي: لا أميل إلى النصوص الطلسمية والمنمقة المصطنعة الفارغة

كوجيتو مساءلة الطغاة

مقالات ذات صلة

علم القصة: الذكاء السردي
عام

علم القصة: الذكاء السردي

آنغوس فليتشرترجمة: لطفيّة الدليميالقسم الاولالقصّة Storyالقصّة وسيلةٌ لمناقلة الافكار وليس لإنتاجها. نعم بالتأكيد، للقصّة إستطاعةٌ على إختراع البُرهات الفنتازية (الغرائبية)، غير أنّ هذه الاستطاعة لا تمنحها القدرة على تخليق ذكاء حقيقي. الذكاء الحقيقي موسومٌ...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram