شاكر الأنبارياتصل بي صديقي من الرمادي وقال لي سآتي الى بغداد غدا، وأريد أن اراك. وحين قابلته في كراج العلاوي أول شيء طلبه مني هو الذهاب معه الى شارع المتنبي. ظننت ان صديقي يرغب في الجلوس بمقهى الشابندر لاحتساء كأس من الشاي مع الأركيلة، والتطلع الى الرواد من مثقفين ومهاجرين عادوا الى الوطن ومتسكعين،
او التجوال في الشارع للفرجة على آخر الاصدارات القادمة من بيروت ودمشق والقاهرة، بعد أن جفت المطابع عندنا، وهاجر الكتاب العراقي ليعيش في عواصم العالم. صديقي لم يكن راغبا في أي من متع شارع المتنبي تلك، بل أصر على ان اذهب به الى باعة كتب الرصيف. وكانت عيناه لا تفتشان عن رواية من الروايات، او قاموس انكليزي عربي، او مجلة نسائية يريد شراءها لزوجته او مجلات للأطفال. كلا، كان مهموما فقط بمناهج الدراسة لابنه حمودي الذي انتقل بتفوق من السادس الابتدائي الى الأول متوسط. قال ان مدرسة حمودي، وتدعى مدرسة الزيتون الواقعة في حي التأميم، لم توزع على طلابها كتابي الرياضيات وقواعد اللغة العربية، رغم مرور حوالي شهر على ابتداء الدوام الرسمي. قالت لهم ان وزارة التربية لم ترفدهم بنسخ من ذينك الكتابين، لعدم توفرهما، على ما يبدو، في المخازن. قسم من الكتب الأخرى لا تتوافر الأعداد الكافية للطلاب، فعمدت الادارة الى نسخها ثم توزيع المستنسخات على الطلاب. وفعلا تعاطفت بعمق مع صديقي وابنه. ورحت افتش مثله في كل كدس من الأكداس المبثوثة على الرصيف. افتش عن قواعد اللغة العربية للصف الأول متوسط، وكتاب الرياضيات، الى ان عثر صديقي على بغيته فصاح من الفرح: وجدتها وجدتها. كان الكتابان مركومين ضمن كدسين عاليين امام احد باعة المتنبي. رائحة الحبر ما زالت عالقة بصفحاتهما، كما لو انهما خرجا توا من المطبعة. أي هما ليسا بمستنسخين. وحين سأل صديقي عن السعر قال البائع اربعة آلاف دينار لكل نسخة. استكثرنا المبلغ وكاد صديقي ان يعود الى حمودي من دون كتابيه. وبعد جهد وتوسلات، وبعد أخذ ورد، نزل سعر النسخة الى ثلاثة آلاف. وهكذا وضع صديقي كتابي ابنه بكيس انيق ورحل خفيفا الى الرمادي، وهو ممتلئ فرحا بهديته لحمودي الذي يدرس في متوسطة الزيتون التابعة للتأميم في الرمادي. وقفت انا اتأمل في الحادث مكتئبا، وساءلت نفسي هل وصل النخر حتى الى التربية التي تنشئ أجيالنا مستقبلا؟ وكيف نأتمن ادارات تتصرف بهذا الشكل على مناهج ابنائنا الدراسية؟ خاصة وثمة شكاوى متراكمة من تجديد المناهج المرتجل، ووجود ثغرات تربوية ومعرفية وتاريخية في تلك المناهج. يفترض ان مديريات التربية في بغداد والمحافظات توزع مناهج الطلاب مجانا، لكن الأمر كان خلاف ذلك. تخيلت ان بيع الف نسخة في شارع المتنبي، وهو عدد ضئيل بالنسبة لمئات آلاف النسخ المطبوعة، ستعود منها على اللص ثلاثة ملايين دينار في ضربة واحدة. واذا ما عرفنا ان سرقات الدولة لا يحقق بها احد فاللصوص يأمنون العقوبة، وهذا ما كشفته آلاف ملفات الفساد المالي في الوزارات العراقية. وأقرب الأمثلة لنا وزارة التجارة، ووزارة الكهرباء، ثم وزارة النفط، وغيرها الكثير. جميع تلك الملفات تقريبا ركمت على الرفوف، وظلت الحكومة تضحك على ذقن المواطن. وفي الوقت ذاته تطلب منه اعادة انتخابها في كانون الثاني المقبل. فضيحة بيع الكتب في شارع المتنبي، بعد حرمان مدارس كثيرة منها، تتحملها وزارة التربية تحديدا. علما ان التبريرات عادة ما تكون جاهزة. لكن الفضيحة تبقى فضيحة، مهما زوقت بالكتب الرسمية والوثائق والملفات.
فــــارزة: فضيحة المناهج في شارع المتنبي
نشر في: 7 نوفمبر, 2009: 08:46 م