اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > بقاربٍ تحت جسر السَّراجي الخشب

بقاربٍ تحت جسر السَّراجي الخشب

نشر في: 14 سبتمبر, 2013: 10:01 م

الفجر في البصرة في العشر الاواخر من أيلول له طعم خاص والله، أقول الفجرَ لأن الشمس في الظهيرة لا تزال محرقة، قوية، لكن الفجر على شط العرب أو بين ما تبقى من البساتين في ابي الخصيب، لهوَ البهجة في الروح والشعور المطلق بالسعادة حين تكون السعادة صوتَ بلبل بين الأغصان، حركة سمكة في نهر، صوت بقرة تثغو، قد أثقل ضرعها الحليب. عالم من السحر والعذوبة يوشك أن ينهار. فهل من منقذ للجمال يا عالم.
أستقل زورقاً وسط نهر السَّراجي، والسَّراجي لمن لا يعلمه نهر كبير متفرع من شط العرب العظيم، لا أحد يذكر تاريخ حفره، لكن الناس تتحدث عن 800 سنة من غابات النخيل، عن 1000 عام من الماء والظلال المتشابكة، عن فلاحين وملاكين شقوا الآلاف من الجداول والترع الصغيرة قبل أن يبنوا البيوت ويدجنوا الآلام في أجسادهم، قبل أن ينشروا الأفراح خضلة رطبة على العشب والنعناع وبيادر القمح. استقل الزورق الصغير لأُبحر، أو بتعبير سعدي يوسف- أُنْهِرَ- نازلا مع المدِّ حتى منتهى النهر الكبير، حيث تتقارب الضفتين وتصغر العصافير هناك، أمدُّ يدي فأمسك السماء الواهنة وهي توشك تلامس السعف، وهي تتمرأى على أجنحة الإوز منسربا مثل خيط من قطن شفيف.
كل يوم أحمل خيط الصيد وصنارته في نزهة هي بين النزهة والمنفعة، انصت لوقع النهار وهو يولد، مثلما أنصت لوقع الليل وهو يغيب، ساعات طوال أقضيها بعيداً عن الحجر والمنازل والطريق الاسفلت والمركبات المسرعة، صيد من سمك أعود به، وبهجة من نأي عن خلافات في السياسة والرأي وعدم الفهم، أعود لأفكر في غد مسرع، يعيد لروحي توازنها الذي باتت تفقده مع كل شمس تنحدر يائسة من تغيير يأتي، ذلك لأن الناس ما عادوا يطمئنون للطبيعة، او يفكرون في معنى أن تكون في غابة نخل بين بلابل لا تطير بعيداً، بين أسماك تصطادها لتشبع نهمك في المغامرة وسبر الأغوار ومفاتحة الكائنات قبل اختلالها الأخير.
في كل جدول صغير او كبير، تحت كل نخلة فطيمة خرجت من الأرض تواً، أو باسقة صعدت السماء، مع كل هدأة بين السعف، مع كل لحظة سكون وصفاء باردة من أمل أو يأس لا يكاد، لي هناك حكاية وألف حكاية، لقد دربت أنفاسي على أن تكون عطرة بذكرى الراحلين، يقول صاحب لي وهو يمسك بعصا خيطه الطويلة، منشغلا بسمكة تسحب الخيط ثم تعيدهُ: لو فزًّ اجدادنا من نومتهم الطويلة هناك ونظروا للمكان هذا حيث نجلس، لقالوا أعيدونا لمهاجعنا حيث نرقد، ذلك لأن أحداً فيهم لا يقوى على رؤية السراجي الكبير وهو يضيق إلى الحد هذا؟ فأقول وهل ضاق النهرُ إلا لتتسع البيوت التي عليه!! وأنا أشير لجّرافة صفراء وهي تسقط نخلة وتردم نهراً، فيسهب صاحبي في الحديث متطاولا على الحكومة والمقاولين وأجهزة الأمن: منذ أكثر من عشرة أعوام والناس هنا لا حديث لهم سوى أن الحكومة المحلية خربت البصرة، دمرت بساتين ابي الخصيب، أجهزت على كل ما هو حضاري فيها، تبيع وتشتري بذمم الناس، يُقتل السنيّ والذميّ ولا تنتصر له، يموت الشيعي جوعاناً فلا تلتفت اليه، الأجهزة الأمنية غير معنية بحياة الناس لأن قادتها مشغولون بجمع اموالهم وإحصاء منازلهم، أما الملاكون فقد باعوا بساتينهم وسكنوا عمّان ودبي ولندن، بساتينهم التي احالها المقاولون الجدد، أصحاب المال السحت، إلى مساكن عشوائية، كل بستان حي قائم بذاته، فصارت دونمات وأجربة وشطبان وأقفزة ومحاويل النخل، مساكن للغرباء.
بمجذاف من خشب صغير لامست أسفل الجسر، قال أهذا الذي كتبت عنه قصيدتك (جسر السراجي الخشب)، أين الخشب؟ قلت: منذ ان مرّت عليه شاحنة الحديد عليه قبل نحو من 30 سنة، وأسقطته هامداً أبدلت دائرة الطرق والجسور بدنه بالحديد، صار يقوى على حديد الشاحنات كلها، وهل تملك الناس صورته الخشب؟ فأقول : لا، فأحدث نفسي بكل سوء لأقول: مثل كل الحكايات في كتب الأساطير الغريبة، سيأتي مؤرخون ليقولوا لنا : كان يا ما كان، في سالف الأعصر والأوان، كانت هناك قرية تسمى السراجي، يخترقها نهر اسمه على أسمها، وعليه جسر باسم القرية والجسر، كان الناس يزرعون فيها النخل والفاكهة والآمال، لكن الحكومة لم تحفظ من ذلك شيئاً . فيقول الحالمون بالظلال تعساً لحكومة لم تحفظ آمال أبنائها.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 1

  1. بغدادي

    اشعر بروح السياب وانا اقرأ لك , ولكن سعدي يوسف ! هل بقي شيء من العراقية في هذا الرجل, بخست حق السياب.

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

المتفرجون أعلاه

جينز وقبعة وخطاب تحريضي

تأميم ساحة التحرير

زوجة أحمد القبانجي

الخارج ضد "اصلاحات دارون"

العمودالثامن: جمهورية بالاسم فقط

 علي حسين ماذا سيقول نوابنا وذكرى قيام الجمهورية العراقية ستصادف بعد أيام؟.. هل سيقولون للناس إننا بصدد مغادرة عصر الجمهوريات وإقامة الكانتونات الطائفية؟ ، بالتأكيد سيخرج خطباء السياسة ليقولوا للناس إنهم متأثرون لما...
علي حسين

قناديل: لعبةُ ميكانو أم توصيف قومي؟

 لطفية الدليمي أحياناً كثيرة يفكّرُ المرء في مغادرة عوالم التواصل الاجتماعي، أو في الاقل تحجيم زيارته لها وجعلها تقتصر على أيام معدودات في الشهر؛ لكنّ إغراءً بوجود منشورات ثرية يدفعه لتأجيل مغادرته. لديّ...
لطفية الدليمي

قناطر: بين خطابين قاتلين

طالب عبد العزيز سيكون العربُ متقدمين على كثير من شعوب الأرض بمعرفتهم، وإحاطتهم بما هم عليه، وما سيكونوا فيه في خطبة حكيمهم وخطيبهم الأكبر قس بن ساعدة الإيادي(حوالي 600 ميلادية، 23 سنة قبل الهجرة)...
طالب عبد العزيز

كيف يمكن انقاذ العراق من أزمته البيئية-المناخية الخانقة؟

خالد سليمان نحن لا زلنا في بداية فصل الصيف، انما "قهر الشمس الهابط"* يجبر السكان في الكثير من البلدان العربية، العراق ودول الخليج تحديداً، على البقاء بين جدران بيوتهم طوال النهار. في مدن مثل...
خالد سليمان
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram