عندما زرت العراق بعد أشهر قليلة من يوم السقوط في العام 2003 توقفت في قضاء المسيّب وأنا في طريقي لزيارة قبر والدي بكربلاء. كانت لدي رغبة ان أقف على جسرها الذي قال ناظم الغزالي انهم سيّبوه عليه. أفزعني منظر نهر الفرات، في يومها، حيث بدا لي وكأنه ساقية بفعل شح مياهه.
عبرت الجسر نحو الصوب الآخر فاستهوتني رائحة شواء "معلاك" منبعثة من احد المطاعم. لقد افتقدتها قرابة عشرين عاما. ما أطيب رائحة الدخان وأنت تمضغ قطع "المعلاك" المحاطة بلفائف الرشاد العراقي. سألت صاحب المطعم عن سر الجفاف الذي لمّ بالفرات. تحسر وأجاب: صدقني انه صار هكذا بعد الانتفاضة! لخص السبب بان النهر جف بسبب الظلم الذي لحق بالناس.
تذكرت الفرات وقصته بعد أن قضيت مساء الأمس في جولة بحي الحسين في القاهرة. أجمل ما بالحي تلك الدرابين الضيقة التي تشعرك بأنها صناديق أسرار. لأول مرة اسمع غناء في تلك الأزقة اذ كأنه اختفى أو جف في أيام حكم الإخوان. للحقيقة اني لم اسمع انهم اتخذوا قرارا بتحريم الغناء بمصر في أيام حكمهم. لكن يبدو أن الأغاني تحزن كما الأنهار لو حكم البلاد ظالم. خذوا الأغنية البغدادية مثلا. لقد اختفت من دون قرار حكومي في زمن الظالم سابقا وفي أيام حكم الظلاميين اليوم.
في واحد من تلك الأزقة تسلل إلى سمعي صوت شجي لمطرب شعبي مصري أرغمتني عذوبة صوته على ان ادخل المقهى الذي كان يغني فيه. مع دخولي صادف ان فترة استراحة قصيرة قد حلت. ومن حديث خاطف مع من جالستهم فهمت ان عودة مقاهي الغناء الشعبي شيء يشبه "الصحوة" بعد سقوط الإخوان.
عاد المغني وافتتح وصلته الغنائية ببيت شعري أدّاه على طريقة الموال. ظل في ذاكرتي منه:
الله يلعنك يا زمان انت بقيت بالهم
والكلب لما حكم قاله الأسد يا عم
لا أدري لماذا لفني الحزن والهم، حين سمعته، للحد الذي نسيت اني بالقاهرة بل وجدت نفسي على جسر المسيّب من جديد أتطلع بوجه الفرات الحزين مثلي. خرجت من المقهى وفي مخيلتي صورة أسد يؤدي فروض التحية والطاعة لكلب حاكم والكلب يصدّه.
سألوا حكيماً: ما الجرح الذي لا يندمل؟
أجاب: وقوف الكريم بباب اللئيم ثم يردّه.
الكلب لما حكم قاله الأسد يا عمّ
[post-views]
نشر في: 16 سبتمبر, 2013: 10:01 م