يحجب لون الدم الناجم عن الاشتباكات المريرة بين الإخوة الأعداء في سوريا، والانفجارات والسيارات المفخخة المتنقلة بين حسينيات ومساجد العراق، وهتافات المتظاهرين في شوارع وميادين مصر، عن عيوننا ما يجري في الجزائر من تطورات سياسية، تتعلق بمستقبل بلد المليون شهيد، فقد أجرى الرئيس بوتفليقة، العائد من رحلة علاج طويلة، توقع الكثيرون أن تنتهي بتنحيه وعجزه، جملة من التغييرات عشية الانتخابات الرئاسية المقررة في نيسان القادم، طاولت جهاز الاستخبارات القوي وبعض الحقائب الوزارية، بحيث غادر الحكومة الوزراء "المزعجون"، واستُبدلوا بآخرين موالين للرئيس، خاصة في حقيبتي العدل والداخلية.
الرئيس الذي يبدو أنه تعافى كلياً من المرض، فاجأ الساحة السياسية، خصوصاً بالتغييرات في المؤسسة العسكرية، واعتبرها البعض حلاً للبوليس السياسي، صاحب القبضة الأقوى في تسيير شؤون البلاد، وهو بقراراته نقل من الخفاء إلى العلن، ما كان سائداً من جفاء بين مؤسستي الرئاسة والاستخبارات، وفي الأثناء قوّى موقف قيادة الأركان، وحليفه في الحكم الجنرال القايد صالح، وهي تغييرات اعتبرها البعض بمثابة تعبيد للطريق نحو فترة رئاسية جديدة، أو على الأقل اختيار من سيخلفه في سدة الحكم، وحماية نظامه الذي حكم الجزائر طيلة أربعة عشر عاماً.
لا يبدو أن التغييرات التي بادر اليها الرئيس الجزائري ستكون الأخيرة، خصوصاً في ظل ما نما له عن تحضيرات لانتخابات رئاسية مسبقة، واستعداد السلطة لتقديم مرشح إجماع يخلفه، وذلك فور نقله إلى باريس للعلاج من جلطتة الدماغية، حيث بدأ من هناك خطواته المضادة، فأبلغ الفريق القايد صالح تعيينه نائباً لوزير الدفاع، وبحيث يمتلك الصلاحيات والإشراف المباشرعلى كامل فروع المؤسسة العسكرية، بما فيها جهاز الاستخبارات، كما أن التغييرات استهدفت أساساً الوزارات ذات الصلة بالاستحقاق الانتخابي، ما يعني عملياً أن التغييرات هي خطوات سياسية تتعلق بالأوضاع الداخلية لنظام الحكم، أكثر مما تتعلق بإصلاح سياسي للأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والمدنية.
الخطوة المُقبلة المُنتظرة هي كشف الرئيس لأوراقه، المتمثلة إما بقبول ترشحه لفترة رئاسية رابعة، إن ساعدته ظروفه الصحية، أو تمديد فترته الحالية وهي الثالثة سنتين إضافيتين، أو دعم مرشح يدفع به في السباق الرئاسي، ويهيئ له كل الإمكانات التي تمكّنه من الوصول إلى قصر الحكم بشكل آمن، وبعيداً عن أية مفاجآت محتملة، ويأتي ذلك في ظل ما يقوله معارضوه، بأنّ التغيير الذي كان ينتظره الشعب، يبدأ بتوفير أجواء وضمانات انتخابات رئاسية شفافة وذات صدقية، تُشرف عليها حكومة وفاق وطني، أو هيئة محايدة بعيداً عن هيمنة الإدارة وتحكّمها في العملية الانتخابية، وإحكام بوتفليقة قبضته على مفاصل الدولة، بعد أن ظنّ كثيرون أنّ المرض أضعف مكامن القوة عنده.
لايغيب عن الصورة حزب جبهة التحرير كقوة سياسية مؤثرة وفاعلة، رغم تشاركه في السلطة مع التجمع الوطني الديمقراطي الذي يفكر بطرح مرشح للرئاسة، فقد أجرى بوتفليقة تغييرات في هرم رئاسته، تضمن الولاء والدعم، والمُهم في الأمر اكتشافنا أن رئيساً عربياً آخر يتمسك بكرسي السلطة، حتّى نظن أنه يرغب بنقله معه إلى مثواه الأخير، يستوي في ذلك الملوك والرؤساء المنتخبون "ديمقراطياً"، والعسكر الذين اغتصبوا السلطة بقوة السلاح، الذي وُضع بين أيديهم لحماية الأوطان.
السُلطة حتّى النفس الأخير
[post-views]
نشر في: 16 سبتمبر, 2013: 10:01 م