قامة إبداعية متميزة أعماله تستمد خصوصيتها من ارث بغداد الحضاري ، النحات عبد الجبار البناء كرس اسمه بين كبار النحاتين في العراق خلال نظرة فنية خاصة، جعلت تجاربه تتجاوز نطاقها المحلي إلى أفق إنساني عالمي، من دون أن يتخلى عن هويته التي جعلت منه حارس هوي
قامة إبداعية متميزة أعماله تستمد خصوصيتها من ارث بغداد الحضاري ، النحات عبد الجبار البناء كرس اسمه بين كبار النحاتين في العراق خلال نظرة فنية خاصة، جعلت تجاربه تتجاوز نطاقها المحلي إلى أفق إنساني عالمي، من دون أن يتخلى عن هويته التي جعلت منه حارس هوية العراق كما وصفه الناقد عادل كامل .
يرفض البناء اراء كثير من المهتمين بالفنون الذين حاولوا حصر اعماله بين الحجر والنحاس فقال لي وانا اتطلع الى القاعة التي ضمت اكثر من مئة عمل نحتي : "اترك للمتلقي اكتشاف الرسالة المقصودة من العمل اعمالي توزعت بين الخشب والبرونز واعمال من مادة الفايبركلاس " .. ويرى ان نسب اعماله للتراث البغدادي فقط امرا قاصرا قائلا : " اعماي بالتحديد جاءت لتكمل مسيرة فن النحت في العراق " ولهذا يعتبر البناء الفن جزءا من حياته : " وجدت نفسي مرتبطا بالفن وهو شغلي وعملي، في المقابل وعلى المستوى الشخصي يعزز علاقاتي الاجتماعية مع الاخرين "
البناء الذي لم تستطع سنوات العمر والتجارب والخبرات أن تخفي بريق الدهشة في عينيه وهو يتحدث عن الفن وعوالمه، تخلى عن جانب من الهدوء الذي يتحلى به، مبديا تعجبه من تراجع حالة الفن في العراق .. والذي يشهد تراجعا مخيفا على حد قوله
عبد الجبار البناء الذي حل ضيفا على قاعة دائرة الفنون التشكيلية في وزارة الثقافة يرى ان تراجع مكانة النحت في العراق يعود لاسباب عديدة ابرزها عدم الاهتمام بهذا الفن وايضا الافتقار الى قاعات عرض حيث تخلوا بغداد من قاعة للفنون التشكيلية مثلما خلت ومنذ سنوات من قاعة للعروض السينمائية ..
المعرض الذي رافقته ندوة للاحتفاء بالفنان البناء كان لها وقعا كبيرا في نفسه وهو يرى تلامذته واصدقاءه يحتفون به ..
الندوة التي حملت عنوان (عبد الجبار البناء مسيرة فنية حافلة بالإبداع)، قدم لها التشكيلي إبراهيم رشيد بكلمات مؤثرة ابتداها بالقول : "نحتفي اليوم بفنان حمل الارث العراقي عميقا وكأنه مثل منحوتاته ، منتصب القامة قويا وصلبا ..تماثيله ومنحوتاته هذه التي نراها اليوم كأنها جذوع بشرية او نخلة سومرية تمتد جذورها عميقا في هذه الارض، اقف اجلالا واحتراما لهذا الفنان الرائد"
فيما تحدث الناقد والفنان عادل كامل عن علاقته بالبناء قائلا : " عندما التقيت عبد الجبار البناء هذا اليوم ..لا اعرف لماذا تذكرت على الفور النحات الايطالي مايكل انجلو .. في يوم بارد كان النحات انجلوا في الطريق فسألوه الى اين انت ذاهب فأجاب الى المدرسة.. عبد الجبار البناء وهو يقترب من التسعين يذكرنا دوما بانه يريد التعلم وانه ذاهب الى مدرسة المجتمع " مضيفا ان " "الجانب الثاني ان عبد الجبار البناء منذ سنواته الاولى استند الى الثقافة واعتمد عليها وتولع بالرسم والنحت منذ سن مبكرة والبناء عندما ابصر كانت بغداد خاليه من النحت والثقافة ومن المعرفة وكانت قد خرجت للتو من قرون مظلمة طويلة"، وتابع كامل "بعد تأسيس معهد الفنون الجميلة دخل البناء معهد الفنون لكي يلتقي برموز النحت والرسم في العراق كما ان الولع والموهبة التي امتلكها النحات صقلت بين يدي جواد وخالد الرحال ولكن البناء في هذا السياق كان يمتلك وعيا ثقافيا متقدما مثل الوعي الذي انتج غني حكمت واسماعيل فتاح الترك اي ان النحت لا ينشأ الا في المدينة وهي اي بغداد قيد النشوء وكان هذا بمثابة تحد"
مختتما حديثة بالقول "عبد الجبار البناء واحدا من العنيدين في الفن ولو لم يكن لديه ثقافة ولو لم يملك تلك الجذور العميقة لترك الفن وضاع، اعماله الفنية اعادة لنسق وليست تكراراً واعادة لمفهوم عبد الجبار لم يوظف عمله في الجوانب التزينية وانما ارتبط بمعمار الانسان، انه فنان احترم النحت ولم ينساق ضمن العمل الاستهلاكي للفن، لم يغادر هذا الفنان النحت الى الرسم الا قليلا ،عبد الجبار لم يستنسخ ولم يولع ولم ينتهج نهجا اوربيا تتلمذ في المعبد العراقي انه فنان مواظب على القراءة".
من جانبه قدم الناقد جواد الزيدي ورقه بعنوان (عبد الجبار البناء وغايات تفعيل الفكرة) قال فيها "أسس الفنان عبد الجبار على مدى ستة عقود فعل المحبة على مستوى الوطن والناس ومفهومات الحياة الكبرى وعلى صعيد الخطاب الجمالي متعدد الاجناس والاتجاهات حتى اجبرنا على مقابلته بتلك المحبة الواسعة"، مضيفا "وبالرغم من محبته للخامات بشكل متعادل الا انه ينحاز الى الخشب حتى اصبح خامته المفضلة التي سعى الى توظيفها عبر تجربته المتأثرة والمتعانقة مع مجمل المعارف الانسانية اذ اتخذت اشكالها صور القصائد الخالدة ونصوص الادب الموشحة بمحبة الوطن وكان من شواهدها ترجمة قصائد الجواهري الى نصوص فنية صاغتها منحوتاته لايمانه بالحقيقة الكاملة داخل الانسان وهو الذي يستطيع تفحص ذاته والاطلاع على المعاني الراقدة فيها وقد اكتشف بشكل مبكر الى سبل تحرر الإنسان لمعرفة معنى الجدوى من وجود الأشياء المحيطة بنا وغايات تفعيل الأفكار"
واشار الى ان "محاولات البناء وغناها وتنويع مجساته لم تكن وليدة الواقع ورموزه او جدلية الالتقاء والانصهار فيما بينها فقط بل ان التقاطاته الشاعرية هي تفتح لاعماله امتداداتها ومعالجات بنائية داخل العمل النحتي لمنحها دفئا حركيا وشكلا حيا داخل صالات العرض".
في الختام تحدث النحات عبد الجبار البناء الذ لم يخفِ حبه وامتنانه لكل من ساهم في اقامة المعرض ولجميع المتحدثين عن تجربته الفنية قائلا : "في العراق لم يكن هناك نحت ،فانا من مواليد 1924 والدي من المعماريين المعروفين في بغداد شيد بيوتا عديدة لكن بيتنا كان صغيرا جدا، كنت اجلب طينا وجصا وحين ابدأ في العمل تضربني والدتي فأضطر ان اذهب الى سطح البيت واعمل تماثيلا وبعدها تأتي والدتي وترمي التماثيل من السطح الى الشارع"، ويتابع "وبعدها اشتغلت في النحت بشكل كبير جدا ينكسر تمثال واجلب طيناً مرة اخرى واعمل تمثالا جديدا، واتذكر ان امراة انكليزية كان زوجها يدرس اللغة العربية في كلية الآداب اسمه رضا القريشي رحمه الله، قالت لي انت نحات كبير فشجعتني وبعدها استمريت في النحت بلا هوادة ولم ابيع اي شيء وبعدها دخلت معهد الفنون الجميلة والى يوم في الكلية شعرت اني في ليلة عرس"
واضاف "اذكر ان جميع الطلاب اخذوا (ستاند) للعمل الا انا فرآني استاذ جواد فسألني لم لم اخذ واشتغل مثلهم فقلت له انتظرتك حتى تقول لي ماذا اعمل فقال لي اعمل مثل زملائك"، "وبعدها اقمت معارض عدة وبين معرض واخر ثلاث سنوات حتى ان إسماعيل الشيخلي قال لي ان عبد الجبار البناء امره عجيب يسكت ثم يأتي بمعرض خارق".