في قديم الزمان ، ومن فندق "نزهة المؤمنين " في لواء البصرة ، قبل ان تكون محافظة ، ينطلق المئات من الأشخاص في أيام عاشوراء ، لإقامة المجالس الحسينية في قرى الجنوب ، باتفاق مسبق مع صاحب المجلس ، وبأجور يتفق عليها الطرفان ، مع توفير مستلزمات الإقامة من طعام ومنام في سرير مريح مصنوع جريد النخل مزود بناموسية "الكلّة " لاتقاء لسع البعوض والحرمس صيفاً ، وشتاءً يكون السرير في مكان تتوفر فيه التدفئة ، لكي لا يتعرض "قاري المجلس" لعارض صحي ، يمنعه من أداء مهمته .
بانتهاء العشرة الاولى من ايام عاشوراء يتوجه بعض قراء المجالس الى قرى اخرى ، وهؤلاء مقارنة بزملائهم لايمتلكون مؤهلات الصف الاول من أصحاب التخصص ، فهم على استعداد لتقديم خدماتهم بأسعار متدنية ، وفي بعض الاحيان تكون مجانية ، تناول الطعام والمبيت ، وكان احدهم ويدعى "الشيخ راضي " ضيف الفلاح زاير معيوف ، المعروف في قريته بإقامة مجلس صغير ، في العشرة الثانية من عاشوراء ، يقتصر حضوره على أبناء أسرة الزاير والمقربين منه .
علاقة شيخ راضي بزاير معيوف وطيدة الى درجة ان الاول كان يقبل الجلوس على "الجاون" لقراءة "النعاوي " ولطالما لبّى رغبة صاحب المجلس في قراءة المزيد لإزاحة "زنجار القلوب والأرواح " بالبكاء وذرف الدموع ، وحماسة الشيخ راضي ترتبط صعوداً وهبوطاً بوجبة عشاء تلك الليلة فاذا كانت تحتوي الدجاح ، تتصاعد الحماسة، أما اذا اقتصرت على التمر والدهن فانها تأخذ الخط التنازلي ، وفي كلتا الحالتين تتوفر للزاير فرصة البكاء المستمر تبدأ من لحظة جلوس الشيخ على الجاون الى القول اللهم احفظ مؤسس هذا المجلس زاير معيوف ، ووفقه وشاف مرضاه وسدد خطاه ونهدي للجميع ثواب قراءة سورة الفاتحة وقبلها الصلوات.
للجاون في ذلك الوقت أهمية كبيرة ، ولذلك حافظ على حضوره في كل صريفة ، فهو أشبه بماكنة "ست البيت" اليوم ، وله دور رائد في إعداد المدكوكة :" تمر الزهدي المخلوط بالسمسم" ، وفي الليلة الاخيرة من العشرة الثانية أخبرت زوجة الزاير ابناءها بانها ستعد لهم المدكوكة ، فانتشر الخبر في القرية ، وابدى الجميع استعداده لحمل "الميجنا" للحصول على الحصة الاكبر من الحلوى الوحيدة المتداولة في ذلك الوقت .
أنهت زوجة الزاير جميع الاستحضارات لإنجاز مهمتها من دون إخبار زوجها ، المستعد هو الاخر لإقامة مجلس الليلة الاخيرة ، فاصدر أوامره بذبح دجاجة ليتناولها الشيخ راضي باكملها ، ويترك للآخرين تناول ثريدها ، لكي ترتفع حماسته في قراءة المقتل ، وعند المساء تقاطعت الرغبات ، فحسمها الزاير بطلب من الشيخ بإصدار قرار تحريم تناول المدكوكة ،فرض على الآخرين قسراً وطبقوه على مضض ، من دون إبداء أي اعتراض يذكر ، وكأنه صادر من اعلى جهة قضائية أحكامها ملزمة لا تقبل الطعن، في إشارة الى "انت الخصم والحكم" في تحديد دور "المدكوكة "في الفصل بين السلطات الثلاث.
تحريم "المدكوكة"
[post-views]
نشر في: 20 سبتمبر, 2013: 10:01 م