إحدى المظاهر البارزة للدولة الفاشلة، تداخل سلطاتها الثلاث التشريعية والقضائية والتنفيذية، في نسيجٍ متنافرٍ ونوّالٍ مُتَكَلفٍ ضعيف الصنعة، مشغول طوال الوقت بفكّ الاشتباك بين "زوجاته" خشية الفضيحة. ولا يمكن ان تقوم للدولة قيامة ما دامت اي من السلطات
إحدى المظاهر البارزة للدولة الفاشلة، تداخل سلطاتها الثلاث التشريعية والقضائية والتنفيذية، في نسيجٍ متنافرٍ ونوّالٍ مُتَكَلفٍ ضعيف الصنعة، مشغول طوال الوقت بفكّ الاشتباك بين "زوجاته" خشية الفضيحة. ولا يمكن ان تقوم للدولة قيامة ما دامت اي من السلطات الثلاث معدومة الاستقلالية، عديمة الإرادة. ومثلما أعيد بناء الدولة على خرائب وفضلات النظام الدكتاتوري السابق، اكتسبت الدولة وأجهزتها ملامح ذلك النظام، وحافظت على قواعده وتكيّفت مع أساليبه وممارساته وقيمه البالية.
وليست السلطة القضائية استثناء عن هذه القاعدة في ما سُمّيَ بعملية إعادة بناء الدولة. وتاريخ الدولة منذ نشأتها، إنما هو من حيث الجوهر تاريخ القضاء، ومبتدؤها الشرائع والقوانين. ولأننا دولة فاشلة وفاسدة بكل المعايير، فالقضاء عندنا "قدرٌ" يعبث بحظوظ العراقيين ويذريها في مهب الرياح المُلوثة بسموم الكراهية والضغائن المتصدئة التي أيقظها الجهل والشراهة والفساد.
وقيل منذ فجر الدولة، إن غياب القضاء ينذر بنهاية الأمة وتحللها، ويفتت نسيجها، ويدمر كيانها. ومهما بذلنا ونافحنا وتصارعنا وتبادلنا المواقع، فان أس الخراب، بـ"انعدام القضاء" الذي يحيط بنا، سيظل يبدد أي أملٍ بالخلاص من فجيعتنا، ما دامت سلطة القضاء، مشلولة الإرادة، بلا حولٍ ولا قدرةٍ ولا استعدادٍ للنهوض بمهامها في إخراجنا من دائرة الفشل ونزيف الدم وتبديد الثروة ونهبها، والفرص المضيّعة للتقدم.
والقضاء من بين السلطات الثلاث، هو الأكثر صعوبة في عملية إعادة البناء. فالقاضي، والجهاز القضائي وأطره المختلفة، عناصر تقوم على التعليم والتأهيل والخبرة وتراكم المعرفة، وكلها تحتاج الى التخطيط والوقت وإرادة التغيير، وهي لم تكن في عقل الحاكم المدني الأميركي بول بريمر، لأنه كان مسكوناً بهاجس الإنجاز المتعجل، وتسجيل نجاح لا علاقة له بمستقبل العراق، ولم يكن ذلك أيضاً بين اولويات القادة العراقيين الجدد، ولا المنتدبين عنهم للتشريع، لانهم كانوا مشغولين بانتهاز الفرصة، واستباق الزمن لإنجاز تقاسم الغنيمة في العراق الجديد، والأولوية في اعتبارهم، أعطيت لتثبيت الخريطة الجديدة في متن الدستور. وقد كان ممكناً في قراءة واقعٍ يتعذر فيه اجراء انقلابٍ في المؤسسة القضائية وبنيانها القديم الذي أكل "عث" الاستبداد، حواشيها واساساتها وعبث بمتونها، ان يتوقف القادة عند القوانين التي شرعها ما كان يعرف بـ"مجلس قيادة الثورة" البعثي ويصدر قراراً بتعطيلها جميعاً وعدم الأخذ بها في كل الاحوال، تمهيداً لإلغائها، وهو ما لم يحصل حتى الان، تحت مظلة مجلس النواب الذي يوشك على إنهاء دورته الثالثة.
وكان مطلوباً أيضاً كمهمة ملحةٍ وأولوية في ارساء قواعد حماية للعملية الديمقراطية، إبعاد السلطة القضائية عن مباءة المحاصصة الطائفية، وإخضاعها لمعايير الكفاءة والنزاهة ونظافة اليد والتاريخ المهني والسياسي، ووضع شرط الشجاعة الشخصية، غير القابلة للتطويع والمسايرة والمساومة، وهو شرط يلزم الأخذ به في المناصب القضائية الرفيعة وهيئاتها العليا، التي تتوقف على قراراتها حياة الناس، وسيرورة العملية الديمقراطية، والحفاظ على سيادة البلاد وثروتها، وفي المقدمة من ذلك كله، السهر على الدستور وتطبيقه، وكشف عورات القوانين والاجراءات والممارسات المتعارضة والمتناقضة مع نصوصه وجوهره وروحه النابضة بالقيم الديمقراطية والإنسانية.
وكل ذلك كان ممكناً، ولو بحدود. لكن شيئاً من ذلك على العموم لم ير النور. ومثلما ظلت خرائب الدولة السابقة وفضلاتها تكشف عن نفسها، خلال السنوات التي أعقبت التغيير "الفوقي" بأداة خارجية مُقحمة، ظلت السلطة القضائية تدور في مربعها الأول، وتعيد انتاج نفسها، مأزومة، ومرتهنة الإرادة لولي الأمر والنعمة، وفرمانات السلطان الأول المتربع على هامة السلطة التنفيذية التي يفترض فيها ان تكون تحت ولاية السلطة القضائية، وتطيع قراراتها بلا جدلٍ ولا استعلاء.
وفي بيئة قلب المسلمات هذه، اضمحلت وتآكلت نواتات قضائية من قضاة مشهود لهم بالكفاءة والنزاهة والخبرة، وضاعت فرص اعتمادهم لرعاية نواتات أخرى من الأجيال الجديدة، والتخطيط لبناء هيكل قضائي معافى من ادران الماضي الاستبدادي، وفساد الحاضر، ولوثة محاصصاته الطائفية وتجاذباتها المخلة.
وما دام الحال على ما هو عليه الآن، فليس من أملٍ في إصلاح الوضع، وانتشال الدولة من براثن الفساد والفشل، ومعافاة الحياة السياسية، والارتقاء بها الى مشارف الديمقراطية واستعادة إرادة العراقيين وصيانة حقوقهم وحرياتهم وكرامتهم المهدورة.
والحال الذي عليه العراق الآن يشبه بيتا يأكل العِث أساساته، بلا سقف. وجدرانه تزداد تشققاً وتصدعاً، تنخرها الرطوبة، وتعشش في فراغاتها الغربان والحشرات الزاحفة. وليس من حلٍ بغير هَّدِ خرائب هذا البيت، وإعادة بنائه محمولاً على قواعد الديمقراطية وروح الدستور، خارج دائرة المحاصصة والطائفية. ومبتدأ أي بناء، القضاء وسلطته المخرومة بالتجاذب، وهياكله المتآكلة بفعل القوانين المتوارثة من عهود الدكتاتورية والاستبداد، بكفالة القوّامين على العراق الجديد، حماة الفساد والجور.
وقد يكون هذا من باب التمني، غير المشفوع بأسباب النيل القريب، وهو كذلك حتى الآن. ولكن السكوت على استمرار الحال، هاوية مفتوحة على الجحيم، ولا بد من العمل بكل الوسائل المتاحة، للانشغال بتطويق ما ينبض بالحياة في جسد القضاء وحمايته من استمرار تسلل نفوذ السلطة التنفيذية وشل ما هو قابل للمقاومة وعصي، ولو من زاوية الحفاظ على ما تبقى من ماء الوجه، على المسايرة وليّ الدستور والقوانين، بعد أن دخلت السلطة التشريعية على خط الصراع والتنازع على المناصب العليا في مجلس القضاء الأعلى والمحكمة الاتحادية، لتقاسمها بالتساوي، على حساب تغييب معايير النزاهة والكفاءة والاستقامة والتمسك بمبادئ القانون والعدالة. ومن المؤسف والمثير لأحزان مضاعفة، ان المحاصصة أخذت طريقها، باتفاقاتٍ سرية واتفاقات بالولاء المسبق، إلى المناصب العليا في القضاء، وتحت قُبة البرلمان، وبعلم (أو من وراء ظهور) النواب. ويبدو ان هذا بات يجري في غيبة من متابعة المنظمات المدنية والاهلية ورجال القانون الأسوياء والقيادات السياسية المجاهرة بالبحث عن مخارج لهذا الاستعصاء في الازمات التي تعاني منها البلاد، وكذلك النواب الذين يستنفرون وسائل الاعلام على القضايا الثانوية والعرضية وينخرطون في لعبة "طم خريزة" البرلمانية.
وتكاد بعض الترشيحات لمثل هذه المواقع القضائية الخطيرة، تُمرر، دون جَردٍ لارتكابات المرشح المنافية لأخلاقية القاضي وتمسكه بأذيال العدالة ونصوص القانون. بل ان البعض منها لا يخضع للمساومة الشخصية فحسب، بل يرتبط أحياناً بمعيار مدى قرب المرشح وخضوعه لدولة القانون ورئيس مجلس الوزراء، وكان من الممكن اعتبار ذلك إيجابياً، لولا انه يصب في كمينٍ اشد ضرراً، لا يجمعه بما يُراد للقضاء ان يكون عليه، جامعٌ او معيار.
لماذا لا يُذاع على الملأ، وفي كل وسائل الإعلام، وعلى مدىً زمني كاف، المرشحون للمناصب القضائية العليا وسيرهم الذاتية والمهنية، لعل بين الناس شهودا تنفع شهادتهم في كشف ما لا يرد في السير، أو ما يدعم كفاءة تتعرض للتشويه.
وقبل هذا وذاك، ان يكون القاضي المرشح، على مسافة من نفوذ حيتان السلطتين، التشريعية والتنفيذية، وكواسر الفساد.
جميع التعليقات 2
علي العراقي
في مقالك هذا وصلنا الى النقطة المهمة والحساسة في سلسلة المقالات الموضوعية التي طرحتها فهو لب وروح الموضوع ولكن ماهو الحل والسكوت الذي اوصلنا الى مانحن عليه ابحث عن سبب موضوعي وحقيقي ومهم في ههذا السكوت نحن الذين نعيش في خضم المشكلة نعرفها وهي ان الاغلبيةت
ali modric
يقال للقاضي ذبح بغير سكين من عظمة المسؤلية ؤالشعؤر بمخافة الله ؤكان الخلفاء المسلمؤن يهابؤن منه ؤياتؤن اليه ؤلاياتي اليهم ؤهؤ احد الاصناف السبعة الذين يظلهم الله تحت ظله فعلى قضاتنا في العراق المحطم ان يكؤنؤا راس السهم في اعادة قؤة الحق للمجتمع ؤالدولة ؤج